الجمعة، 11 أبريل 2014

جانب آخر من دبي

يحدث كثيراً لأبناء الإمارات أن يمروا بهذا الموقف: يستمتعون بالسياحة في بلد ما ويدخلون في حوارات صغيرة مع الناس هناك، فضول الناس يجعلهم يرغبون في التعرف على الغرباء، ومن أول الأسئلة التي تطرح في هذه الحوارات هو السؤال عن البلد الذي جاء منه السياح، فيقول أبناء الإمارات "نحن من الإمارات" فلا يعرف الناس هذا البلد، ربما يحاول البعض أن يستخدم الاسم الرسمي الكامل "الإمارات العربية المتحدة" لكن ذلك غالباً لا يكفي، فلا يجد الواحد منهم غير أن يقول أنه من دبي، وعندما يسمع الناس اسم دبي تتغير وجوههم وغالباً تصبح مشرقة: آه دبي! عرفوها وبعضهم سيتحدث عن أمنيته في زيارة دبي وكيف أنه معجب بها.

صورة دبي هي تلك المدينة بمشاريعها العقارية الضخمة، برج خليفة وما يحيط به من مساحات رائعة، شارع الشيخ زايد والبنايات العالية على جانبيه، الفنادق الفخمة، المطاعم الفخمة، السيارات الفخمة، المطار الكبير المتطور، المترو الجديد، التجارة وفرص العمل، كل هذا وغيره هي صورة دبي عند كثير من الناس، وهي صورة إيجابية فكثير منهم يتمنى العمل في دبي أو على الأقل زيارتها مرة.

لكن لا أريد الحديث عن كل هذا، أود الحديث عن جانب آخر من دبي، أشعر أنه جانب منسي أو لا يسوق بشكل كافي، وهو دبي القديمة، عندما تسير في شارع الشيخ زايد وترى البنايات الحديثة الزجاجية العالية بتصاميمها المختلفة ويعلو فوقها برج خليفة، عندما تسير في هذا الشارع فأكمل السير حتى تصل لآخره - إن كنت قادماً من جهة أبوظبي - وستصل إلى دوار كبير بجانب بناية عالية بيضاء هي برج التجارة العالمي، هذا البرج كان في الماضي بناية عالية حقاً وعجيبة بالنسبة لي عندما كنت أزور دبي في طفولتي، الآن أصبح صغيراً بجانب برج خليفة.

المهم هنا الدوار، هذا الدوار هو في رأيي الفاصل الأول بين دبي بصورتها الجديدة ودبي القديمة، وإذا أكملت السير نحو خور دبي ستصل إلى دبي القديمة بشوارعها الضيقة، هذه المنطقة كلما زرتها تمنيت لو سرت فيها ماشياً في وقت بارد مناسب لممارسة التصوير هناك، لا أدري لماذا أشعر بذلك لكنها منطقة تذكرني بجزء من ماضي دبي في ذاكرتي، كلما زرتها ورأيت بعض المحلات أو البنايات القديمة تذكرت أنني كنت هنا قبل ما يزيد عن 15 عاماً أو أكثر، ولا زالت الأماكن كما هي لكن قد تتغير تفاصيلها.

أذكر الأسواق القديمة بل أكاد أذكر الصور التي رأيتها في ذلك الوقت والروائح التي تنبعث من محلات العطور ومحلات العطارة، أذكر حر الشمس وظل السوق المسقوف، رائحة التوابل والأعشاب التي يبيعها العطار، روائح العطور وأصوات النساء وهن يطالبنه بتخفيض أسعاره إلى أقل حد ممكن، لا زلت أذكر ذلك القارب الخشبي الصغير الذي كان يقوده رجل كبير في السن، يجدف بيديه لينقلنا من بر دبي إلى ديرة ثم بعد التسوق في ديرة يعود بنا إلى بر دبي، كما أذكر لم يعد أحد يعمل بهذا الشكل فكل القوارب الآن تعمل بالمحركات.

كلما زرت هذه المنطقة القديمة من دبي تذكرت أشياء لم أكن أدرك وجودها في ذاكرتي من قبل، تفاصيل صغيرة تعود ببطء لتشكل صورة قديمة، أحياناً يقلقني هذا الشوق للماضي، لأنني أدرك أنه هروب من الواقع وتجنب للتفكير في المستقبل، لكنني لا أستطيع التوقف عن تذكر الماضي، أياً كان صورة الماضي الحقيقية فهو في ذاكرتي كان شيئاً رائعاً، ولا شك كان وقتاً أبسط بكثير من أيامنا هذه.

بالأمس كنت في زيارة سريعة لهذه المنطقة، مضى ما يزيد عن 12 عاماً منذ أن زرت متحف دبي وأردت زيارته مرة أخرى، أنا وداوود لا نعرف كيف نبحر في شوارع دبي القديمة أو الجديدة ولذلك طلبت خدمات سائق آخر ليذهب بنا إلى هناك وهو يعرف دبي جيداً.

في الصباح خرجنا من أبوظبي عبر جزيرة داس وما إن وصلنا إلى طريق أبوظبي دبي حتى جمعت كفي واستقمت في جلستي وأغضمت عيني كأنني أمارس التأمل لكنني رحت في نوم عميق ولم أفق إلا ونحن نمر بجانب جبل علي، يبدو لي النوم كآلة للزمن، نمت في أبوظبي واستيقظت في دبي والفاصل بينهما ساعة ونصف تقريباً لكنهما في النوم مجرد ثوان قليلة!

شارع الشيخ زايد دائماً مبهر بتفاصيله، البنايات الزجاجية التي أحياناً تبدو متشابهة جداً ومن الصعب التفريق بينها، المحلات بأنواعها أسفل هذه البنايات، السيارات الكثيرة بأنواعها وأنا أحب السيارات ويعجبني أن أرى النادر منها، ولا شك هناك شيء جديد في هذا الشارع في كل مرة أزور دبي.

عبرنا الشارع إلى الدوار ودخلنا إلى دبي القديمة وكلما اقتربنا من الخور أرى صوراً تذكرني أو تكاد تذكرني بشيء ما لكن الذكريات تبدو كالضباب ولا يمكنني الإمساك بها، أتذكر بعض البنايات، بعض المحلات، هناك محلات لم تعد موجودة لكنني أتذكرها وأتذكر أماكنها.

من أول ملاحظاتي هناك أنني المواطن الوحيد على مد البصر! في الشوارع الضيقة والمزدحمة بالناس لم أرى غير الآسيوين بمختلف دولهم وبعض الأفارقة، قلت ذلك لداوود والسائق عبد القادر فوافقوني، ثم قلت لهم "حتى أنتوا هنود!" فضحكوا من ذلك، وهذه ضحكة من نوع: شر البلية ما يضحك.

وصلنا إلى متحف دبي ونزلت مع داوود وبقي عبد القادر في السيارة لأنه زار المتحف مرات كثيرة ولم يعد يرغب في فعل ذلك مرة أخرى، بدأت أصور ولاحظت الزحام الذي علمت لاحقاً من عبد القادر أنه ليس زحاماً بل اليوم عدد الناس قليل، اشتريت التذاكر وسعر التذكرة 3 دراهم فقط! أول ما أدركته هو أن حجم المتحف صغير مقارنة بالصورة في ذاكرتي، أتذكره أكبر من ذلك لكنه فارق العمر والحجم.

وأكرر أنني كنت المواطن الوحيد هنا، من حولي جنسيات مختلفة، صينيون وكوريون وروسيون وأناس من دول أوروبية لا أعرف لغاتها، الهنود كثر كذلك ولم أجد عربياً واحداً هناك، تجولت في المتحف لأتذكره كما كان في الماضي، لا أظن أن التفاصيل تغيرت.

كلما زرت متحفاً تذكرت مقدار جهلي بتاريخ البلاد، وكذلك جهل الكثيرين من المقيمن بتاريخ هذا البلد، عدة أناس أعرفهم أبدوا دهشتهم عندما أخبرتهم عن تاريخ للإمارات يعود لأكثر من 7 آلاف عام، وعن مناطق أثرية بعمر 5 آلاف عام وعن وجود آثار أسلامية كذلك، بل أحدهم صارحني بأنه كان يظن أن الإمارات لم تخرج إلى الوجود إلا بالنفط وقبل ذلك لم يكن هناك تاريخ هنا، وهذا أمر يضايقني لأنه يدل على أننا لم نسوق لتاريخ البلاد كما سوقنا لأحدث الأبراج والمشاريع العقارية.

متحف دبي متخم بالتفاصيل لكنني لن أتحدث عنها، كل ما أود أن أقوله هنا أنك إن زرت دبي فزر المتحف، يستحق أن تنفق من وقتك ساعة في رؤية وقراءة ما يقدمه المتحف، وعندما تقترب من باب الخروج ستمر بمحل للتحف، هناك كتب مصورة وكتب عن تاريخ الإمارات، أشتري بعضها لنفسك وللآخرين.

خرجنا من المتحف ومباشرة وجدنا أمامنا عائلة إفريقية يتحدثون بهدوء عجيب، أقول ذلك لأن طفل لهم بحجم ضخم حقاً كان يبكي بحرقة شديدة وبصوت عال على أمر أظنه صغير لكن لو سمعت بكائه في ذلك الوقت فقد تظن أن مكروهاً أصابه، كنت أتحدث مع داوود فتوقفت عن الكلام وابتعدت بسرعة عن العائلة الكريمة لكي فقط أريح أذني من بكاء الطفل الصغير الكبير، لكن صوته لحقنا ولمسافة لا بأس بها.

أردت بعد زيارة المتحف أن أزور منطقة البستكية وهي منطقة قديمة تحوي كثيراً من البيوت القديمة وفيها الكثير مما أود رؤيته، البستكية كانت على بعد شارع واحد فقط من المتحف لكن عبد القادر لا يعرفها وظن أنني أعني القرية التراثية، للأسف لم أرى خرائط غوغل قبل أن أذهب لدبي وإلا لعرفت أنها على بعد "فرة حصاة" كما نقول، أي على بعد رمية حجر، لكن هذه فرصة لكي أزور دبي مرة أخرى، البستكية منطقة تستحق حقاً أن أخصص زيارة لها والتجول فيها، وتستحق منك أن تزورها كذلك.

Dubai Museum - متحف دبي
جانب من قلعة الفهيدي

Dubai Museum - متحف دبي
مدخل متحف دبي

6 تعليقات:

حازم سويلم يقول...

قال لى صديق اماراتى اثناء دراساتنا بالجامعه ان تاريخ الامارات العربية لم يبدأ الا عام 1965 وأظنه الان مخطئأ..

عبدالله المهيري يقول...

@حازم سويلم: هو في الغالب يقصد تاريخ الإمارات الرسمي كدولة حديثة وهو محق بعض الشيء، الجهود لتشكيل الدولة بدأت في الستينات، لكن المنطقة تاريخها قديم والآثار التي تكتشف بين حين وآخر تدل على وجود الناس هنا منذ ما يزيد عن 7 آلاف عام.

غير معرف يقول...

زرت دُبي عندما كُنت قادماً من لندن وعائداً إلى السودان في عام ٢٠٠٢ تقريباً، توقفنا فيها ثلاثة أيام، لكننا لم نمكث في الفندق، حيث ذهبنا إلى الشارقة وقد كان هُناك بعض أقرباء زميلي الذي كان معي في السفر. كان الفرق كبير بين لندن ودبي، حيث كانت لندن مدينة قديمة وملأى بالناس، أما دبي والشارقة فقد كانتا مدينتين حديثتين، لم نجد فيهما أي بناية قديمة تدل على تاريخ معين أو طابع لأهل البلد، ولم نجد إماراتيين إلا في المطار فقط، حتى في البقالة والسوق كُنا نتكلم اللغة اﻹنجليزية مع الهنود.
اعتقد أن التسارع في البنيان الذي حدث في اﻹمارات ودبي خصوصاً بدأ يطمس هويتها الحقيقية، اصبحت دبي مدينة عالمية أكثر من كونها مدينة في قلب دولة عربية، لابد لأهلها أن يبذلوا مجهوداً كبيراً في الحفاظ على الهوية والتاريخ بدلاً من الحفاظ فقط على الحداثة

عبدالله المهيري يقول...

@أبو إياس: بدأ بطمس هويتها الحقيقية منذ ما يزيد عن عقد، الأمر ليس جديداً خصوصاً أننا كإماراتيين نتكلم عنه ونكتب عنه منذ عقدين، أما الحفاظ على الهوية والتاريخ فهناك جهود كثيرة، منها متحف دبي ومنطقة البستكية وقرية التراث وكذلك جهود ثقافية كثيرة حول الإمارات، سأحاول بقدر الإمكان أن أكتب عن هذه الجهود وأصورها.

غير معرف يقول...

المشكلة الكبيرة هي غياب السكان اﻷصليين من المنطقة وكثرة اﻷجانب فيها، هذا يؤثر سلباً على تربية اﻷطفال مثلاً، وفي في لغتهم.
أتخيل أن يُصبح اﻹماراتيين كأنهم ضيوف في بلدهم، خصوصاً عندما يذهبون للأسواق وحتى عندما يتواجدون في الشوارع.
ذكرني هذا بعادة العرب في مكة المكرمة عندما كانوا يُخرجون أولادهم الصغار خارج مكة، في البادية حتى لا تتأثر لغتهم بالحجيج الذين يتوافدون من البقاع المختلفة في الجزيرة العربية وماجاورها في ذلك الوقت.

لمن ألقى السمع يقول...

السلام عليكم اخ عبدالله، هذا مقطع فيديوأبوظبي في الثمانيات، أتمنى ان ينال رضاك
http://youtu.be/Dj7Bz2dXyfw

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.