كنت أتحدث معه عن أمور كثيرة، سيعود لبلاده قريباً ويحدثني عن متجره الجديد هناك ورغبته في ألا يعود لأنه يريد أن يعمل في بلاده وبين أسرته حتى لو كان ما يحصل عليه قليلاً، أخبرني أنه يحتاج لأمور كثيرة وذكر من بينها الحاسوب، لم يكن يريد مني شيئاً فهو فقط يتكلم، لعلها عادتي القديمة تشجعه على الكلام، يمكنني أن أستمع لأي شخص يتحدث لوقت طويل دون أن أقاطع أو أرد أو أحاول إثبات أنه أخطأ هنا أو هناك، هناك أناس كثر بحاجة فقط لمن يستمع لهم.
لساني سبقني كالعادة فأخبرته أنني سأوفر له حاسوباً قبل سفره، فعلت ذلك وأنا أعلم أنني لا أستطيع تحمل تكلفة شراء حاسوب جديد أو حتى إيجاد حاسوب مستعمل لكنني انتظرت لعل وعسى أن أجد وسيلة لتوفير حاسوب، لكن الأيام مضت واقترب موعد سفره فأعطيته حاسوبي، لدي قاعدة أحاول بقدر الإمكان أن ألتزم بها وهي: إذا وعدت فعلي تنفيذ وعدي مهما كان الثمن، أصبحت بلا حاسوب قبل أيام قليلة من بداية هذا الشهر.
نظفت الطاولة من الغبار المتراكم، وضعت بضع كتب على الزاوية اليسرى من الطاولة وألصقتها بالجدار، وجدت في البيت جهاز التسجيل القديم الذي اشتريته قبل سنوات عدة ثم أعطيته لأخي، هو مشغل أقراص مدمجة ومشغل أشرطة كاسيت ومذياع لكن لكي أختصر سأسميه مسجل، الجهاز من صنع سوني وأذكر أنه كان رخيصاً، بحثت عن سلك كهرباء له ووجدت واحداً فبدأت بتنظيف الجهاز ثم وضعته على الزاوية اليمنى من الطاولة وشغلته، للأسف يمكن لكومة البلاستك هذه أن تلتقط بث الإذاعات بشكل أفضل من جهاز غالي الثمن اشتريته سابقاً، بدأت أستمع لإذاعة القرآن الكريم من أبوظبي وإذاعة بي بي سي، بدأت أسمع الأخبار مرة أخرى ومعها برامج تنقلني حول العالم، الاستماع للإذاعات كان متعة ولا زال وأمراً كنت أمارسه كثيراً في الماضي عندما كان هناك ما يستحق أن أستمع له في إذاعاتنا المحلية.
مع عودة الأخبار تعود المعضلة والسؤال، ماذا يمكنني أن أفعل؟ أن يتمنى المرء التهور وفعل أي حماقة أو أي شيء يورطه ليس شجاعة، أن يبقى شعور العجز والخذلان ومحاولة موازنة مشاعر عالمين مختلفين قد يقود أي إنسان إلى الإحباط واليأس، لكن التفكير في ما يمكن فعله الآن ليس هو الحل ولا السؤال الصحيح، كثير من مشاكل الدنيا لها أساس يعود لسنوات أو عقود أو حتى قرون، وكثير من جهود البشر لا يكون لها نتيجة إلا بعد عقود أو حتى قرون، فكرة تظهر اليوم قد لا يرى أثرها صاحبها إلا بعد أن يرحل عن الدنيا، لذلك السؤال هو: ما الذي أستطيع أن أفعله في حياتي لأغير المستقبل؟ يمكنك أن تفعل شيئاً تأمل أن يكون له نتيجة الآن وقد لا تنجح وتتسبب في إعاقتك عن العمل مرة أخرى، ويمكنك أن تعمل لشيء بعيد المدى لكن لا يمكنك أن تضمن النتيجة، في الحالتين الخيار صعب، التضحية الآن قد لا يكون لها نتيجة والعمل لشيء بعيد المدى يحتاج لكثير من الصبر وتجاهل ما هو مستعجل الآن.
في منتصف الطاولة مساحة فارغة، هنا كان الحاسوب يقف ويفتح لي نافذة كالثقب الأسود تجذب وتغرق كل شيء في محيط لا نهائي من المحتويات والاتصالات، شخص مثلي لا يملك القدرة على إدارة وقته أمام الحاسوب سيغرق في هذا المحيط في ثواني ولن يخرج إلا بأن يغلق النافذة أو يرسلها لشخص آخر.
الآن هذه المساحة الفارغة تدعوني لفعل شيء، بدأت أقرأ الكتب ولاحظت من البداية أنني أريد البحث في غوغل وويكيبيديا عن كلمات وأفكار أقرأها، لكن الطاولة لا تحمل فوقها نافذة، اضطررت للكتابة في دفتر لكن هذا يشعرني بالضجر لأنني في أحيان أتمنى كتابة مواضيع ولا أحب فعل ذلك بالورق والقلم، في الحقيقة منذ بدأت الكتابة وأنا أستخدم لوحات المفاتيح، لم يسبق لي أن كتبت على الورق ثم نقلت الموضوع إلى الحاسوب، هذا أمر غير عملي الآن خصوصاً أن وسيلة النشر الأساسية لي هي الشبكة.
تمنيت للمرة الألف أو ربما المليون أن يكون لدي حاسوب للكتابة، حاسوب وظيفته الوحيدة أن يسمح لمستخدمه بأن يكتب الملاحظات والمواضيع، لا مشكلة في عدم وجود الإنترنت بل المشكلة في عدم وجود حاسوب، عندما أضع يدي على لوحة المفاتيح وأبدأ في الكتابة أجد نفسي أفكر بطريقة أخرى مختلفة عن طريقة تفكيري عندما لا أكتب، لعلها اللغة الفصحى تجعلني قادراً أكثر على جمع أفكاري والتعبير عنها بشكل أفضل مما سأفعل لو تحدثت باللغة العامية، الحاسوب لم يعد مجرد وسيلة بالنسبة لي بل هو امتداد للعقل أو وسيلة تساعد العقل على التفكير بشكل أفضل.
بدأت أقرأ الكتب المتراكمة في مكتبتي ولم يكن هناك ما يلهيني عن القراءة لذلك كنت أقضي ساعات في قراءة كتاب واحد تماماً كما كنت أفعل في الماضي، أسجل ملاحظات إن كان هناك ما يستحق أن أكتبه وغالباً تكون الملاحظات كلمات قصيرة أريد البحث عنها لأفهمها، لكن الآن ومع وجود اتصال بالإنترنت - لبضعة أيام - أجد أنني لم أعد بحاجة للبحث في هذه الكلمات، الكتب خرجت من غرفتي وقد فهمت معظمها وفهم هذه الكلمات لن يزيدني شيء سوى تضييع ساعات في ويكيبيديا.
لاحظت شيئاً لم يكن يحدث في الماضي، أجلس في الليل للقراءة حتى يزورني النعاس فلا أستطيع إبقاء رأسي في مكانه، من التعب أقوم أحياناً من الطاولة إلى السرير مباشرة وأرمي بنفسي هناك لأنام فوراً بلا أي مقدمات، إنارة الغرفة تعمل ولم أشغل المنبه ومع ذلك أقوم قبل الفجر بدون أي منبه ولا أحتاج إلى النوم مرة أخرى طوال اليوم التالي، هل الحاسوب له تأثير على النوم؟ لا أدري، لعله ليل الشتاء الأطول هو السبب، أذكر أنني قرأت عن تأثير الشاشات على نوم الإنسان، من يشاهد الشاشات لوقت متأخر في الليل يجد صعوبة في النوم، هذا ما أذكره.
مع القراءة كنشاط وحيد بدأت أشعر بالملل سريعاً، هناك اختلاف كبير بين بيئة الإنترنت وبيئة الطاولة الخالية من أي إنترنت، في الشبكة هناك فرص كثيرة للقراءة ومتابعة الأخبار التقنية وأخبار كثيرة تهمني حول أمور كثيرة وهناك المقالات ومقاطع الفيديو والصور والألعاب، هناك دائماً جديد يثير الانتباه فلا أشعر بالملل، هذا إدمان قرأت عنه مراراً، سأكتب عنه بالتفصيل لاحقاً لكن ألخصه هنا في كلمات، هناك جزء صغير من العقل يعطي المرء شحنات إيجابية كلما تلقى بريداً جديداً أو رسالة في تويتر أو حتى إعجاباً - أي Like - في فايسبوك، بعض الناس يجدون هذه الشحنات الإيجابية كلما زاروا البريد الإلكتروني حتى لو لم يجدوا جديداً، بعضهم يبحث عن هذه الشحنات الإيجابية بدون وعي عندما يتصفحون الشبكة بلا هدف، عندما يتوقف المرء عن التصفح يبقى هذا الجزء من العقل يبحث عن الشحنات الإيجابية فهو قد أدمن عليها، هذا النمط من الإدمان يتكرر حتى عند من يتناول الوجبات السريعة الثقيلة أو يدمن القهوة والشاي أو حتى يدمن المخدر، كل هؤلاء يشتركون في نقطة أن عقولهم تطلب ما أدمنوا عليه لأنها تريد الشعور الإيجابي الآني حتى لو كان هذا الشعور على حساب أمور كثيرة في حياة المرء.
الملل هذا جربته سابقاً عندما جربت أن أتوقف عن استخدام الشبكة، العقل يحتاج لفترة لكي يدرك أن الشبكة لن تعود ثم يتعود على البقاء لساعات في نشاط واحد دون شعور بالملل أو التململ، مع ذلك رأيت أن أنوع الأنشطة التي أمارسها فبدأت بمشاهدة أفلام وثائقية بقيت لدي لمدة طويلة تجمع الغبار - كالمعتاد - وعدت لألعاب الفيديو بعد أن توقفت لفترة وعدت للحديث مع الآخرين سواء كنت أعرفهم أم كانوا مجرد غرباء التقيهم لأول وآخر مرة.
قبل كل شتاء أعاهد نفسي أنني سأستغل الشتاء لأخرج أكثر، لأزور أماكن وأشاهد أشياء لم أرها من قبل، لكنني لم أفعل ذلك ولا أنوي أن أكرر نفس الخطأ هذه المرة، لذلك خرجت إلى إحدى حدائق الكورنيش في عصر أحد الأيام وكنت مع داوود، كنا ننوي إيقاف السيارة في المواقف المتوفرة في الشارع المقابل للكورنيش ثم نعبر نفقاً للمشاة لكي نصل إلى البحر، لكن الموقف كان خلف حديقة لم أزرها من قبل فبقينا هناك ومشينا، لأول مرة أرى هذه الحديقة مع أنها موجودة في أبوظبي منذ سنوات، داوود يذكرني أنني وهو من سكان أبوظبي مع ذلك لا نعرف شيئاً عنها، كانت هناك سفينة مصممة لكي يلعب فيها الأطفال، ملعب رملي يحوي الرمل الأبيض، ملاعب الأطفال موزعة في أنحاء الحديقة، أماكن للجلوس، محل يؤجر دراجات هوائية كلمت البائع فيه ومازحته حول وزني وقدرة دراجاته الهوائية على تحمل هذا الوزن، رأيت ملعب كرة سلة وفريقان من الجنسية الفلبينية، ذكرني هذا المنظر بأيام كنا نمارس هذه الرياضة كثيراً في بيتنا وبيت الجيران.
شغف داوود كان ولا زال الأشجار والأزهار وأصبح شغفي كذلك، نشترك أنا وهو في حب اللون الأخضر وألوان الأزهار ومعرفة أسمائها وفوائد النباتات وثمارها، كانت هناك أشجار كبيرة في الحديقة وهناك أزهار بألوان مختلفة، الوردي والبرتقالي والبنفسجي والأبيض، كنت أتحدث مع أي غريب ألتقيه هناك في الحديقة وكانت الأشجار وأزهارها وسيلة لفعل ذلك.
مشينا من أول الحديقة إلى آخرها وعدنا ورأينا كل شيء في الحديقة الصغيرة، لكنها حديقة تحوي كل شيء جديد علينا أنا وداوود، أخبرته أنني لن أجعل هذا الشتاء يمر دون أن أزور كل الحدائق في العاصمة وأزور ما يمكنني من متاحف ومعارض، سئمت الجلوس في البيت، سئمت ألا أرى الناس وأتحدث معهم، سئمت الحاسوب والإنترنت، هناك حياة خارجهما ويبدو أنني نسيت كيف أعيش في هذا العالم الذي كنت أعيش فيه سابقاً قبل أن أعرف الإنترنت.
منذ أن كتبت اعترافات سمين وحتى اليوم حدثت أمور كثيرة في ما يتعلق بصحتي والرياضة والطعام، فقد فقدت 12 كيلو وهذا رقم ليس كبيراً لكنه أكثر من كافي بالنسبة لي لأنه يخبرني أنني أسير في الطريق الصحيح، أمارس الرياضة كل يوم وأمشي كل يوم، طعامي أصبح صحياً أكثر وبأحجام أقل بكثير من الماضي، كنت مدمناً على الطعام السريع والآن لم أعد أرغب في تناوله ومع هذا التغيير بدأت أقلل من كميات الأرز والخبز والآن تمضي أيام وأحياناً أسبوع بدون تناول الأرز والخبز أما الطعام السريع فقد يمضي شهر وأكثر دون أن آكل شيئاً منه وحتى ما آكله الآن أصبح أقل بكثير من الماضي، وهناك تغيير آخر أشعر به وهو عدم رغبتي في تناول اللحوم، أحياناً أشعر بالغثيان من رائحة اللحم المطبوخ وأتجه بالتدريج إلى الطعام النباتي، هذا التغيير البطيء مع الطعام والرياضة أحتاج لتكراره مع الإنترنت.
بدأت بذلك منذ فترة الآن وأحتاج لوقت لكي أرى نتيجة، من نتائج عدم وجود حاسوب أنني أكثر الخروج من المنزل الآن، ذهبت مثلاً إلى معرض الكتاب في الشارق وهذا كان في يوم الخميس الماضي، ذهبت مع الأهل ولم أكن أنوي شراء شيء ومع ذلك حصلت على كتاب مجاني! ما أردت فعله هناك هو التجول في المعرض والتحدث مع العارضين وخصوصاً الناشرين الأجانب، تحدثت مع دار نشر تايونية أهدوني الكتاب المجاني وتكلمت معهم عن السياحة في تايوان ورغبتي في زيارة بلدهم، تجولت في جناحي الناشرين الهنود والباكستانيين وقد كانوا متقاربين من بعضهم البعض كتقارب بلدانهم لكن هناك أمور تفرق بينهم وقد كانوا من قبل بلداً واحداً، تحدثت مع ناشرين عرب وجمعت بعض قوائم الكتب منهم وسألت بعضهم عن مشاركتهم في معرض أبوظبي للكتاب لأنني قد أشتري منهم في الشارقة إن أخبروني أنهم لن يشاركوا في معرض أبوظبي.
مساحة معرض الشارقة كبيرة والمشي فيه متعب، كذلك البحث عن شخص ما لم تتفق معه مسبقاً على الحضور أيضاً متعب، كنت أبحث عن شخص أتوقع وجوده هناك ولم أجده، كان علي أن أراسله بأي طريقة قبل أن أزور الشارقة لكن لا أعرف طريقة لفعل ذلك سوى تويتر الذي لم أعد أشارك فيه.
طال الحديث وأنا لم أتحدث بعد عن الكتب، أتركها لموضوع آخر.
لساني سبقني كالعادة فأخبرته أنني سأوفر له حاسوباً قبل سفره، فعلت ذلك وأنا أعلم أنني لا أستطيع تحمل تكلفة شراء حاسوب جديد أو حتى إيجاد حاسوب مستعمل لكنني انتظرت لعل وعسى أن أجد وسيلة لتوفير حاسوب، لكن الأيام مضت واقترب موعد سفره فأعطيته حاسوبي، لدي قاعدة أحاول بقدر الإمكان أن ألتزم بها وهي: إذا وعدت فعلي تنفيذ وعدي مهما كان الثمن، أصبحت بلا حاسوب قبل أيام قليلة من بداية هذا الشهر.
نظفت الطاولة من الغبار المتراكم، وضعت بضع كتب على الزاوية اليسرى من الطاولة وألصقتها بالجدار، وجدت في البيت جهاز التسجيل القديم الذي اشتريته قبل سنوات عدة ثم أعطيته لأخي، هو مشغل أقراص مدمجة ومشغل أشرطة كاسيت ومذياع لكن لكي أختصر سأسميه مسجل، الجهاز من صنع سوني وأذكر أنه كان رخيصاً، بحثت عن سلك كهرباء له ووجدت واحداً فبدأت بتنظيف الجهاز ثم وضعته على الزاوية اليمنى من الطاولة وشغلته، للأسف يمكن لكومة البلاستك هذه أن تلتقط بث الإذاعات بشكل أفضل من جهاز غالي الثمن اشتريته سابقاً، بدأت أستمع لإذاعة القرآن الكريم من أبوظبي وإذاعة بي بي سي، بدأت أسمع الأخبار مرة أخرى ومعها برامج تنقلني حول العالم، الاستماع للإذاعات كان متعة ولا زال وأمراً كنت أمارسه كثيراً في الماضي عندما كان هناك ما يستحق أن أستمع له في إذاعاتنا المحلية.
مع عودة الأخبار تعود المعضلة والسؤال، ماذا يمكنني أن أفعل؟ أن يتمنى المرء التهور وفعل أي حماقة أو أي شيء يورطه ليس شجاعة، أن يبقى شعور العجز والخذلان ومحاولة موازنة مشاعر عالمين مختلفين قد يقود أي إنسان إلى الإحباط واليأس، لكن التفكير في ما يمكن فعله الآن ليس هو الحل ولا السؤال الصحيح، كثير من مشاكل الدنيا لها أساس يعود لسنوات أو عقود أو حتى قرون، وكثير من جهود البشر لا يكون لها نتيجة إلا بعد عقود أو حتى قرون، فكرة تظهر اليوم قد لا يرى أثرها صاحبها إلا بعد أن يرحل عن الدنيا، لذلك السؤال هو: ما الذي أستطيع أن أفعله في حياتي لأغير المستقبل؟ يمكنك أن تفعل شيئاً تأمل أن يكون له نتيجة الآن وقد لا تنجح وتتسبب في إعاقتك عن العمل مرة أخرى، ويمكنك أن تعمل لشيء بعيد المدى لكن لا يمكنك أن تضمن النتيجة، في الحالتين الخيار صعب، التضحية الآن قد لا يكون لها نتيجة والعمل لشيء بعيد المدى يحتاج لكثير من الصبر وتجاهل ما هو مستعجل الآن.
في منتصف الطاولة مساحة فارغة، هنا كان الحاسوب يقف ويفتح لي نافذة كالثقب الأسود تجذب وتغرق كل شيء في محيط لا نهائي من المحتويات والاتصالات، شخص مثلي لا يملك القدرة على إدارة وقته أمام الحاسوب سيغرق في هذا المحيط في ثواني ولن يخرج إلا بأن يغلق النافذة أو يرسلها لشخص آخر.
الآن هذه المساحة الفارغة تدعوني لفعل شيء، بدأت أقرأ الكتب ولاحظت من البداية أنني أريد البحث في غوغل وويكيبيديا عن كلمات وأفكار أقرأها، لكن الطاولة لا تحمل فوقها نافذة، اضطررت للكتابة في دفتر لكن هذا يشعرني بالضجر لأنني في أحيان أتمنى كتابة مواضيع ولا أحب فعل ذلك بالورق والقلم، في الحقيقة منذ بدأت الكتابة وأنا أستخدم لوحات المفاتيح، لم يسبق لي أن كتبت على الورق ثم نقلت الموضوع إلى الحاسوب، هذا أمر غير عملي الآن خصوصاً أن وسيلة النشر الأساسية لي هي الشبكة.
تمنيت للمرة الألف أو ربما المليون أن يكون لدي حاسوب للكتابة، حاسوب وظيفته الوحيدة أن يسمح لمستخدمه بأن يكتب الملاحظات والمواضيع، لا مشكلة في عدم وجود الإنترنت بل المشكلة في عدم وجود حاسوب، عندما أضع يدي على لوحة المفاتيح وأبدأ في الكتابة أجد نفسي أفكر بطريقة أخرى مختلفة عن طريقة تفكيري عندما لا أكتب، لعلها اللغة الفصحى تجعلني قادراً أكثر على جمع أفكاري والتعبير عنها بشكل أفضل مما سأفعل لو تحدثت باللغة العامية، الحاسوب لم يعد مجرد وسيلة بالنسبة لي بل هو امتداد للعقل أو وسيلة تساعد العقل على التفكير بشكل أفضل.
بدأت أقرأ الكتب المتراكمة في مكتبتي ولم يكن هناك ما يلهيني عن القراءة لذلك كنت أقضي ساعات في قراءة كتاب واحد تماماً كما كنت أفعل في الماضي، أسجل ملاحظات إن كان هناك ما يستحق أن أكتبه وغالباً تكون الملاحظات كلمات قصيرة أريد البحث عنها لأفهمها، لكن الآن ومع وجود اتصال بالإنترنت - لبضعة أيام - أجد أنني لم أعد بحاجة للبحث في هذه الكلمات، الكتب خرجت من غرفتي وقد فهمت معظمها وفهم هذه الكلمات لن يزيدني شيء سوى تضييع ساعات في ويكيبيديا.
لاحظت شيئاً لم يكن يحدث في الماضي، أجلس في الليل للقراءة حتى يزورني النعاس فلا أستطيع إبقاء رأسي في مكانه، من التعب أقوم أحياناً من الطاولة إلى السرير مباشرة وأرمي بنفسي هناك لأنام فوراً بلا أي مقدمات، إنارة الغرفة تعمل ولم أشغل المنبه ومع ذلك أقوم قبل الفجر بدون أي منبه ولا أحتاج إلى النوم مرة أخرى طوال اليوم التالي، هل الحاسوب له تأثير على النوم؟ لا أدري، لعله ليل الشتاء الأطول هو السبب، أذكر أنني قرأت عن تأثير الشاشات على نوم الإنسان، من يشاهد الشاشات لوقت متأخر في الليل يجد صعوبة في النوم، هذا ما أذكره.
مع القراءة كنشاط وحيد بدأت أشعر بالملل سريعاً، هناك اختلاف كبير بين بيئة الإنترنت وبيئة الطاولة الخالية من أي إنترنت، في الشبكة هناك فرص كثيرة للقراءة ومتابعة الأخبار التقنية وأخبار كثيرة تهمني حول أمور كثيرة وهناك المقالات ومقاطع الفيديو والصور والألعاب، هناك دائماً جديد يثير الانتباه فلا أشعر بالملل، هذا إدمان قرأت عنه مراراً، سأكتب عنه بالتفصيل لاحقاً لكن ألخصه هنا في كلمات، هناك جزء صغير من العقل يعطي المرء شحنات إيجابية كلما تلقى بريداً جديداً أو رسالة في تويتر أو حتى إعجاباً - أي Like - في فايسبوك، بعض الناس يجدون هذه الشحنات الإيجابية كلما زاروا البريد الإلكتروني حتى لو لم يجدوا جديداً، بعضهم يبحث عن هذه الشحنات الإيجابية بدون وعي عندما يتصفحون الشبكة بلا هدف، عندما يتوقف المرء عن التصفح يبقى هذا الجزء من العقل يبحث عن الشحنات الإيجابية فهو قد أدمن عليها، هذا النمط من الإدمان يتكرر حتى عند من يتناول الوجبات السريعة الثقيلة أو يدمن القهوة والشاي أو حتى يدمن المخدر، كل هؤلاء يشتركون في نقطة أن عقولهم تطلب ما أدمنوا عليه لأنها تريد الشعور الإيجابي الآني حتى لو كان هذا الشعور على حساب أمور كثيرة في حياة المرء.
الملل هذا جربته سابقاً عندما جربت أن أتوقف عن استخدام الشبكة، العقل يحتاج لفترة لكي يدرك أن الشبكة لن تعود ثم يتعود على البقاء لساعات في نشاط واحد دون شعور بالملل أو التململ، مع ذلك رأيت أن أنوع الأنشطة التي أمارسها فبدأت بمشاهدة أفلام وثائقية بقيت لدي لمدة طويلة تجمع الغبار - كالمعتاد - وعدت لألعاب الفيديو بعد أن توقفت لفترة وعدت للحديث مع الآخرين سواء كنت أعرفهم أم كانوا مجرد غرباء التقيهم لأول وآخر مرة.
قبل كل شتاء أعاهد نفسي أنني سأستغل الشتاء لأخرج أكثر، لأزور أماكن وأشاهد أشياء لم أرها من قبل، لكنني لم أفعل ذلك ولا أنوي أن أكرر نفس الخطأ هذه المرة، لذلك خرجت إلى إحدى حدائق الكورنيش في عصر أحد الأيام وكنت مع داوود، كنا ننوي إيقاف السيارة في المواقف المتوفرة في الشارع المقابل للكورنيش ثم نعبر نفقاً للمشاة لكي نصل إلى البحر، لكن الموقف كان خلف حديقة لم أزرها من قبل فبقينا هناك ومشينا، لأول مرة أرى هذه الحديقة مع أنها موجودة في أبوظبي منذ سنوات، داوود يذكرني أنني وهو من سكان أبوظبي مع ذلك لا نعرف شيئاً عنها، كانت هناك سفينة مصممة لكي يلعب فيها الأطفال، ملعب رملي يحوي الرمل الأبيض، ملاعب الأطفال موزعة في أنحاء الحديقة، أماكن للجلوس، محل يؤجر دراجات هوائية كلمت البائع فيه ومازحته حول وزني وقدرة دراجاته الهوائية على تحمل هذا الوزن، رأيت ملعب كرة سلة وفريقان من الجنسية الفلبينية، ذكرني هذا المنظر بأيام كنا نمارس هذه الرياضة كثيراً في بيتنا وبيت الجيران.
شغف داوود كان ولا زال الأشجار والأزهار وأصبح شغفي كذلك، نشترك أنا وهو في حب اللون الأخضر وألوان الأزهار ومعرفة أسمائها وفوائد النباتات وثمارها، كانت هناك أشجار كبيرة في الحديقة وهناك أزهار بألوان مختلفة، الوردي والبرتقالي والبنفسجي والأبيض، كنت أتحدث مع أي غريب ألتقيه هناك في الحديقة وكانت الأشجار وأزهارها وسيلة لفعل ذلك.
مشينا من أول الحديقة إلى آخرها وعدنا ورأينا كل شيء في الحديقة الصغيرة، لكنها حديقة تحوي كل شيء جديد علينا أنا وداوود، أخبرته أنني لن أجعل هذا الشتاء يمر دون أن أزور كل الحدائق في العاصمة وأزور ما يمكنني من متاحف ومعارض، سئمت الجلوس في البيت، سئمت ألا أرى الناس وأتحدث معهم، سئمت الحاسوب والإنترنت، هناك حياة خارجهما ويبدو أنني نسيت كيف أعيش في هذا العالم الذي كنت أعيش فيه سابقاً قبل أن أعرف الإنترنت.
منذ أن كتبت اعترافات سمين وحتى اليوم حدثت أمور كثيرة في ما يتعلق بصحتي والرياضة والطعام، فقد فقدت 12 كيلو وهذا رقم ليس كبيراً لكنه أكثر من كافي بالنسبة لي لأنه يخبرني أنني أسير في الطريق الصحيح، أمارس الرياضة كل يوم وأمشي كل يوم، طعامي أصبح صحياً أكثر وبأحجام أقل بكثير من الماضي، كنت مدمناً على الطعام السريع والآن لم أعد أرغب في تناوله ومع هذا التغيير بدأت أقلل من كميات الأرز والخبز والآن تمضي أيام وأحياناً أسبوع بدون تناول الأرز والخبز أما الطعام السريع فقد يمضي شهر وأكثر دون أن آكل شيئاً منه وحتى ما آكله الآن أصبح أقل بكثير من الماضي، وهناك تغيير آخر أشعر به وهو عدم رغبتي في تناول اللحوم، أحياناً أشعر بالغثيان من رائحة اللحم المطبوخ وأتجه بالتدريج إلى الطعام النباتي، هذا التغيير البطيء مع الطعام والرياضة أحتاج لتكراره مع الإنترنت.
بدأت بذلك منذ فترة الآن وأحتاج لوقت لكي أرى نتيجة، من نتائج عدم وجود حاسوب أنني أكثر الخروج من المنزل الآن، ذهبت مثلاً إلى معرض الكتاب في الشارق وهذا كان في يوم الخميس الماضي، ذهبت مع الأهل ولم أكن أنوي شراء شيء ومع ذلك حصلت على كتاب مجاني! ما أردت فعله هناك هو التجول في المعرض والتحدث مع العارضين وخصوصاً الناشرين الأجانب، تحدثت مع دار نشر تايونية أهدوني الكتاب المجاني وتكلمت معهم عن السياحة في تايوان ورغبتي في زيارة بلدهم، تجولت في جناحي الناشرين الهنود والباكستانيين وقد كانوا متقاربين من بعضهم البعض كتقارب بلدانهم لكن هناك أمور تفرق بينهم وقد كانوا من قبل بلداً واحداً، تحدثت مع ناشرين عرب وجمعت بعض قوائم الكتب منهم وسألت بعضهم عن مشاركتهم في معرض أبوظبي للكتاب لأنني قد أشتري منهم في الشارقة إن أخبروني أنهم لن يشاركوا في معرض أبوظبي.
مساحة معرض الشارقة كبيرة والمشي فيه متعب، كذلك البحث عن شخص ما لم تتفق معه مسبقاً على الحضور أيضاً متعب، كنت أبحث عن شخص أتوقع وجوده هناك ولم أجده، كان علي أن أراسله بأي طريقة قبل أن أزور الشارقة لكن لا أعرف طريقة لفعل ذلك سوى تويتر الذي لم أعد أشارك فيه.
طال الحديث وأنا لم أتحدث بعد عن الكتب، أتركها لموضوع آخر.
3 تعليقات:
ليتنا نستطيع أن نفعل مثلك في اﻹستغناء عن الحاسوب لفترات طويلة، لكنه بالنسبة لنا يُعتبر مصدر رزق وعمل يومي لابد منه، وربما لانُتقف شيء آخر غيره.
لدي جهاز حاسوب قديم زائد، يمكني أن اهديه لك إذا اردت، به وندوز 7 وأوبنتو 12.10 لكن لاأدري ماهي أفضل طريقة للإرسال.
عندنا كثير من المعارف يذهبون دبي، يمكنني أن ارسله معهم.
وسوف تكون تجربة غريبة، لم ارسل هدية كهذه (شيء يخصني وقديم) لشخص خارج السودان
الجهاز هو Lenovo T60p
كُنت أفكر لكن أعطيه، ربما أن الشخص المناسب
التعليق السابق به أخطاء مطبعية:
ليتنا نستطيع أن نفعل مثلك في اﻹستغناء عن الحاسوب لفترات طويلة، لكنه بالنسبة لنا يُعتبر مصدر رزق وعمل يومي لابد منه، وربما لانُتقن شيء آخر غيره.
لدي جهاز حاسوب قديم زائد، يمكني أن اهديه لك إذا وافقت، به وندوز 7 وأوبنتو 12.10 لكن لاأدري ماهي أفضل طريقة للإرسال.
عندنا كثير من المعارف يذهبون دبي، يمكنني أن ارسله معهم.
وسوف تكون تجربة غريبة، لم ارسل هدية كهذه (شيء يخصني وقديم) لشخص خارج السودان
الجهاز هو Lenovo T60p
كُنت أفكر لمن أعطيه، ربما أنت أكثر شخص مناسب
@أبو إياس: أفهم شعورك، هو مصدر رزق وفي نفس الوقت جهاز تتمنى الابتعاد عنه، كثير ممن يعملون مع الحواسيب يشتركون في هذه النقطة ويذكرونها عندما يسافرون ويضطرون للتخلي عنه لأيام، كأنه أصبح قيداً وتحرروا منه.
بخصوص حاسوبك، بارك الله فيك، أرى أن أهلك وأصدقائك أولى بالحاسوب مني، لا بد أن هناك من يحتاجه فابحث عنه، لا مشكلة بالنسبة لي أن أبقى بدون واحد لفترة، عاجلاً أو آجلاً سأجد فرصة لشراء واحد.
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.