هل هي حقاً اختياراتنا؟ لا أذكر متى اخترت أن أجبر نفسي على الاستيقاظ من النوم بعيون ثقيلة لا ترغب في مفارقة الفراش، ببطء أسحب اللحاف وأضعه جانباً ثم أحرك قدمي لأضعهما على الأرض، لا أحد في الغرفة يشاهد هذا المنظر، العالم لا يكترث لاستيقاظ شخص من نومه، العالم لا يكترث أنني أبدأ يوماً جديداً، هل أكترث أنا؟
سحبت رجلاي نحو المطبخ، هناك كعك ينتظرني، هناك ثلاجة فيها ما أرغب من الفواكه والعصائر والحلويات، سحبت علبة عصير وشربت منها مباشرة أمام الثلاجة، مرة أخرى، لا أحد هنا يشاهد هذا المنظر، الآخرون نائمون أو خرجوا مبكراً، عدت لغرفتي لأستعد ليوم جديد، الاستحمام، الملابس، مفاتيح السيارة، محفظة النقود، هاتفي الذي يطلب مني أن أرى الرسائل الجديدة المتراكمة وآخر الصور المضحكة التي أرسلها زملاء العمل، لم أنسى شيئاً.
في الطريق إشارة توقفني بالضوء الأحمر، حولي أناس في مثل عمري، بعضهم متزوج ولديه أطفال والأطفال في المقعد الخلفي تشتكي وجوههم من فراق الفراش وبعضهم نائم، آبائهم أو أمهاتهم ينظرون للأمام، عيونهم بليدة باهتة، لا شيء في وجوههم يخبرني أن خلف القناع روح، أسمع لبرنامج الصباح في الإذاعة والمذيعة تبدو أنها تريد توزيع التفاؤل كأنها توزع حلوى على مجموعة أطفال، تردد "صباحكم خير وسعادة وتفاؤل" وأنا أنتظر الإشارة الخضراء لكي أصل إلى الإشارة الحمراء التي تليها.
"عزيزي المستمع، ابدأ صباحك بابتسامة وتفاؤل وليكن هدفك اليوم أن ترسم ابتسامة على الآخرين" لو رسمت على وجوههم سأطرد من عملي! وما الداعي لرسم الابتسامات فهي مرسومة مسبقاً وتأتي جاهزة حسب كل موقف وكل شخص، مقر عملي ليس مكاناً للتعاون وفرق العمل بقدر ما هو معركة يومية اجتماعية خفية يحاول كل طرف فيها أن يتفوق على حساب الآخرين وإن لم يستطع التفوق فيمكنه أن يجرهم ويفسد عليهم، في هذه البيئة الكبار يصبحون أطفالاً.
وصلت إلى طابق مكاتب قسمنا ودخلت لأسمع أول تحية صباح في ذلك اليوم، "تأخرت" قالها المدير كأنه يطرح حقيقة ستغير العالم، ألقيت نظرة على ساعة المكتب، أنا متأخر 7 دقائق بالضبط "بحسب ما أعلم لا بأس من التأخر 15 دقيقة، الطريق كان مزدحماً" قلت للمدير وأنا أعلم أنه سيقول حكمته المشهورة "هذا ليس بعذر، أخرج من المنزل مبكراً، لديك إنذار في ملفك، هل ترغب في واحد آخر؟"
تركته وسؤاله الذي لا يحتاج إجابة واتجهت نحو مكتبي، مكاتبنا تأخذ مساحة كبيرة من هذا الطابق، كل موظف محشور في مكعب رمادي كئيب، مديرنا يمنع أي نوع من الزينة أو اللمسات الشخصية لأنه يرى أن هذا مكان عمل وليس هناك وقت أو مساحة للأمور الشخصية، مديرنا مجرد آلة وضعت في المكان الخطأ أو خطأ وضع في هذا المكان، جلست وبدأت ببطء أنجز عملاً يمكن لبرنامج حاسوب أن ينجزه، لم يكن هذا ما أتصوره عندما حصلت على شهادة نظم معلومات.
في الساعة الواحدة خرجت من مكتبي إلى غرفة استراحة لا يحبها المدير، اشتريت عصيراً وشطيرة جبن من آلة وجلست، لم أكمل 10 دقائق حتى جاء المدير كالصقر المنقض على فريسته "ماذا تفعل هنا؟" أخبرته أن هذا وقت استراحة، "إذهب إلى مكتبك وأنجز العمل، نحن نعطيك الراتب مقابل وقتك، هذا وقت المؤسسة" أردت أن أقول أنه الراتب لا يخرج من جيبه أو جيب أبيه فقلت "وهو وقتي أيضاً، ثم هذه ساعة استراحة ينص عليها قانون المؤسسة وهي من حقي وحق جميع الموظفين، أنت لا تسمح لنا بتناول الطعام على مكاتبنا ولا تتركنا في حالنا إن جلسنا هنا في ساعة الاستراحة، هل لديك حل؟"
سألته دون انتظار إجابة، "الحل إنتاجية أكثر، أنهي طعامك بسرعة وعد، وإلا إنذار آخر في ملفك" وخرج، لا أدري لم أنا الوحيد الذي يوجه له الكلام مع أن هناك آخرون معي يستغلون ساعة الراحة، في بدايات عملي كنت أوافق المدير وأعمل بجد لكن مع الأيام بدأت أتململ وأتضايق ثم بدأت أخالفه صراحة دون أن أخرج عن الحد ومع ذلك وجد وسيلة لوضع إنذار في ملفي، مديرنا مجرد آلة، كيف يفكر؟ هل يشعر بأي شيء؟ السؤال الأهم: لم لا يمرض؟ مضت سنوات منذ بدأت العمل هنا وكل زملائي الموظفين أصابهم المرض مرة أو مرتين وبعضهم مرة كل عام أما المدير فعجيب حقاً كيف أنه لم يصب بأي شيء، لماذا؟
عدت إلى مكتبي بعد انتهاء ساعة الراحة، عمل دون توقف إلى وقت انتهاء الدوام ومرة أخرى أسمع المدير يردد "تأتون متأخرين وتخرجون فور انتهاء الوقت" ومرة أخرى أنا في زحام السيارات، وصلت للبيت ولم يبقى في الروح روح، عشاء طلبته من محل بيتزا، قضيت ساعات أمام الحاسوب وفي الشبكة إلى منتصف الليل، نوم بلا رغبة في النوم، هل هي حقاً اختياراتنا؟
يوم جديد، عيون ثقيلة، العالم لا يكترث، لم أرغب في تناول الإفطار لذلك بدأت يومي كالمعتاد، استحمام، ملابس، مفاتيح السيارة، الهاتف، لم أنسى شيئاً.
وصلت إلى باب السيارة، وقفت هناك أنظر إلى السيارة، إلى الشارع بأشجاره، إلى ذلك العامل الذي ينظف الشارع، لا أدري لم تركت السيارة وعدت إلى المنزل، علقت ثوبي على ظهر باب غرفتي وذهبت إلى المطبخ، أخذت بعض الكعك وشيء من الجبن ومربى البرتقال ووزعتها بأناقة على صحن كبير، سحبت علبة عصير مانجو وجلست إلى طاولة في المطبخ، لا أذكر متى كانت آخر مرة تناولت فيها إفطاراً مثل هذا، العمل يمكنه أن ينتظر.
"تأخرت" ألقاها المدير متسائلاً فقد تأخرت ساعة كاملة، قلت له "أعلم" وأكملت سيري نحو مكتبي، لحقني ليخبرني أن هذا يعني إنذار ثاني، "أعلم" قلتها دون أن ألتفت له، أخبرني أنها آخر مرة لأن الثالث يعني إنهاء عملي، "أعلم" قلت وأنا أجلس في مكتبي، متى سيتركني الأخ سوبرغلو وشأني؟
يوم ممل آخر، لم ينسى المدير أن يذكرني مرات عديدة بأنني تأخرت حتى سئمت سماع كلامه وتخيلت أنني أرميه من النافذة "فهمت، وأخبرتني مرات عديدة، لا حاجة لأن تخبرني مرة أخرى، أعطني الإنذار ولينتهي الأمر" لكنه كالدبور لا يمكنه إلا أن يزعجك وهو يحوم بين الموظفين بحثاً عن قطرة إنتاجية يعصرها من أرواحهم، يفعل ذلك مع الجميع إلى أن يصل إلى زاوية وهناك يتغير شيء ما في شخصيته فقد وصل إلى الموظف المفضل لديه، "فلان" إن أخطأ فلن يجد في ملفه أي إنذار، إن تأخر فله عذره، إن غاب فهو مريض، وإن خرج قبل وقت انتهاء الدوام فهو في حاجة ولا بأس بذلك، أما أنا وغيري فليس لدينا غير أن نسمع ما يلفظه عقل هذه الآلة العجيبة.
لمحني قبل أن أخرج من مقر العمل وألقى علي الأمر: "عليك أن تعوض الساعة التي أخذتها أول الصباح"، لم أرد عليه نظرت وأنا أفكر بما يجب علي فعله لكي أتجنب إرسال لكمة نحو وجهه، قلت "لا يهمني" وخرجت، حقيقة لم أعد أهتم، لم أعد أكترث، لتذهب الإنتاجية والعمل إلى الجحيم.
كان يوماً تعيساً، مررت على أحد المحلات واشتريت مجموعة من الحلويات والأطعمة الجاهزة والكعك، تناولت هذا الطعام وأنا أشاهد التلفاز، أكره عملي، أكره مديري، ما الذي يبقيني هناك؟
يوم جديد، عيون ثقيلة، العالم لا يكترث ولا يهمني ذلك، قررت في هذا الصباح أن يكون يومي مختلفاً، سنوات تمضي وأنا لا أهتم بصحتي، تعاسة العمل أحملها معي إلى المنزل ثم إلى بطني وجسمي وإلى فراشي ولا أتخلص منها هناك، مزيد من التعاسة كل يوم ولسنوات، اليوم لن أسمح للمزيد منها أن يدخل حياتي، قمت على غير العادة نشيطاً لأنني سأعد إفطاري بنفسي وسيكون ساخناً ولذيذاً، ليذهب المدير إلى الجحيم.
البانكيك أمره بسيط، تحتاج لطحين وسكر وقليل من الملح مع ملعقة شاي من بيكنج باودر، أخلطها جيداً، في وعاء آخر ضع ملعقة زبدة ذائبة مع بيضة وحليب وإن شئت ضع نكهة الفانيليا، اخلط المكونات كلها وسيكون لديك خلطة بانكيك، يمكنك أن تصنع ما شئت من الأقراص، شخصياً أفضلها سميكة وأضع فيها قطع حلوى وأحياناً ثمار توت العليق أو الزبيب أو حتى المكسرات وأحياناً الجبن، اليوم أعددتها بدون إضافة شيء ووضعتها فوق بعضها البعض وفوقها وضعت ملعقتي عسل أسود.
تناولت إفطاري مع عصير برتقال، ليس إفطاراً مثالياً لكنه خير من أي شيء آخر كنت أتناوله في الأيام الماضية، كان الوقت مبكراً ولا أدري ما الذي يمكن فعله الآن، الأسواق لم تعد تفتح إلا متأخرة، ركبت السيارة وذهبت نحو حديقة قريبة، هناك مشيت دون هدف، أنظر في كل شيء حولي ولا أدري لم أشعر أنني أكتشف العالم لأول مرة، كل شيء لم أنتبه له عاد يشد انتباهي، الهاتف رن فأسكته دون أن أنظر في شاشته، رن مرة أخرى فأسكته، لم يمضي وقت طويل حتى رن للمرة الثالثة وهنا أسكته وأغلقته، أعلم أن الأخ سوبرغلو يتصل بي ليلقي علي محاضرة أخلاقية حول الإنتاجية والعمل والتقدم الحضاري.
خرجت من الحديقة واتجهت نحو أحد المقاهي التي لا أزورها إلا قليلاً، لم يكن أحد هناك سواي والعاملين في المقهى، أخذت صحيفة وجلست أقرأ وانتظرت كوب القهوة الكبير.
بعد جولة دون هدف في مركز تجاري عدت إلى المنزل، يبدو أنني لن أذهب إلى العمل اليوم، علقت ثوبي على ظهر باب غرفتي، وذهبت نحو الهاتف، شغلته، بعد ثواني وصلتني 3 رسائل جديدة وكلها من مديري، فتحت آخر واحدة لأقرأ "أنت مفصول"، قرأت الرسالة مرات عدة، انتهت علاقتي بعملي ... أخيراً.
سحبت رجلاي نحو المطبخ، هناك كعك ينتظرني، هناك ثلاجة فيها ما أرغب من الفواكه والعصائر والحلويات، سحبت علبة عصير وشربت منها مباشرة أمام الثلاجة، مرة أخرى، لا أحد هنا يشاهد هذا المنظر، الآخرون نائمون أو خرجوا مبكراً، عدت لغرفتي لأستعد ليوم جديد، الاستحمام، الملابس، مفاتيح السيارة، محفظة النقود، هاتفي الذي يطلب مني أن أرى الرسائل الجديدة المتراكمة وآخر الصور المضحكة التي أرسلها زملاء العمل، لم أنسى شيئاً.
في الطريق إشارة توقفني بالضوء الأحمر، حولي أناس في مثل عمري، بعضهم متزوج ولديه أطفال والأطفال في المقعد الخلفي تشتكي وجوههم من فراق الفراش وبعضهم نائم، آبائهم أو أمهاتهم ينظرون للأمام، عيونهم بليدة باهتة، لا شيء في وجوههم يخبرني أن خلف القناع روح، أسمع لبرنامج الصباح في الإذاعة والمذيعة تبدو أنها تريد توزيع التفاؤل كأنها توزع حلوى على مجموعة أطفال، تردد "صباحكم خير وسعادة وتفاؤل" وأنا أنتظر الإشارة الخضراء لكي أصل إلى الإشارة الحمراء التي تليها.
"عزيزي المستمع، ابدأ صباحك بابتسامة وتفاؤل وليكن هدفك اليوم أن ترسم ابتسامة على الآخرين" لو رسمت على وجوههم سأطرد من عملي! وما الداعي لرسم الابتسامات فهي مرسومة مسبقاً وتأتي جاهزة حسب كل موقف وكل شخص، مقر عملي ليس مكاناً للتعاون وفرق العمل بقدر ما هو معركة يومية اجتماعية خفية يحاول كل طرف فيها أن يتفوق على حساب الآخرين وإن لم يستطع التفوق فيمكنه أن يجرهم ويفسد عليهم، في هذه البيئة الكبار يصبحون أطفالاً.
وصلت إلى طابق مكاتب قسمنا ودخلت لأسمع أول تحية صباح في ذلك اليوم، "تأخرت" قالها المدير كأنه يطرح حقيقة ستغير العالم، ألقيت نظرة على ساعة المكتب، أنا متأخر 7 دقائق بالضبط "بحسب ما أعلم لا بأس من التأخر 15 دقيقة، الطريق كان مزدحماً" قلت للمدير وأنا أعلم أنه سيقول حكمته المشهورة "هذا ليس بعذر، أخرج من المنزل مبكراً، لديك إنذار في ملفك، هل ترغب في واحد آخر؟"
تركته وسؤاله الذي لا يحتاج إجابة واتجهت نحو مكتبي، مكاتبنا تأخذ مساحة كبيرة من هذا الطابق، كل موظف محشور في مكعب رمادي كئيب، مديرنا يمنع أي نوع من الزينة أو اللمسات الشخصية لأنه يرى أن هذا مكان عمل وليس هناك وقت أو مساحة للأمور الشخصية، مديرنا مجرد آلة وضعت في المكان الخطأ أو خطأ وضع في هذا المكان، جلست وبدأت ببطء أنجز عملاً يمكن لبرنامج حاسوب أن ينجزه، لم يكن هذا ما أتصوره عندما حصلت على شهادة نظم معلومات.
في الساعة الواحدة خرجت من مكتبي إلى غرفة استراحة لا يحبها المدير، اشتريت عصيراً وشطيرة جبن من آلة وجلست، لم أكمل 10 دقائق حتى جاء المدير كالصقر المنقض على فريسته "ماذا تفعل هنا؟" أخبرته أن هذا وقت استراحة، "إذهب إلى مكتبك وأنجز العمل، نحن نعطيك الراتب مقابل وقتك، هذا وقت المؤسسة" أردت أن أقول أنه الراتب لا يخرج من جيبه أو جيب أبيه فقلت "وهو وقتي أيضاً، ثم هذه ساعة استراحة ينص عليها قانون المؤسسة وهي من حقي وحق جميع الموظفين، أنت لا تسمح لنا بتناول الطعام على مكاتبنا ولا تتركنا في حالنا إن جلسنا هنا في ساعة الاستراحة، هل لديك حل؟"
سألته دون انتظار إجابة، "الحل إنتاجية أكثر، أنهي طعامك بسرعة وعد، وإلا إنذار آخر في ملفك" وخرج، لا أدري لم أنا الوحيد الذي يوجه له الكلام مع أن هناك آخرون معي يستغلون ساعة الراحة، في بدايات عملي كنت أوافق المدير وأعمل بجد لكن مع الأيام بدأت أتململ وأتضايق ثم بدأت أخالفه صراحة دون أن أخرج عن الحد ومع ذلك وجد وسيلة لوضع إنذار في ملفي، مديرنا مجرد آلة، كيف يفكر؟ هل يشعر بأي شيء؟ السؤال الأهم: لم لا يمرض؟ مضت سنوات منذ بدأت العمل هنا وكل زملائي الموظفين أصابهم المرض مرة أو مرتين وبعضهم مرة كل عام أما المدير فعجيب حقاً كيف أنه لم يصب بأي شيء، لماذا؟
عدت إلى مكتبي بعد انتهاء ساعة الراحة، عمل دون توقف إلى وقت انتهاء الدوام ومرة أخرى أسمع المدير يردد "تأتون متأخرين وتخرجون فور انتهاء الوقت" ومرة أخرى أنا في زحام السيارات، وصلت للبيت ولم يبقى في الروح روح، عشاء طلبته من محل بيتزا، قضيت ساعات أمام الحاسوب وفي الشبكة إلى منتصف الليل، نوم بلا رغبة في النوم، هل هي حقاً اختياراتنا؟
***
يوم جديد، عيون ثقيلة، العالم لا يكترث، لم أرغب في تناول الإفطار لذلك بدأت يومي كالمعتاد، استحمام، ملابس، مفاتيح السيارة، الهاتف، لم أنسى شيئاً.
وصلت إلى باب السيارة، وقفت هناك أنظر إلى السيارة، إلى الشارع بأشجاره، إلى ذلك العامل الذي ينظف الشارع، لا أدري لم تركت السيارة وعدت إلى المنزل، علقت ثوبي على ظهر باب غرفتي وذهبت إلى المطبخ، أخذت بعض الكعك وشيء من الجبن ومربى البرتقال ووزعتها بأناقة على صحن كبير، سحبت علبة عصير مانجو وجلست إلى طاولة في المطبخ، لا أذكر متى كانت آخر مرة تناولت فيها إفطاراً مثل هذا، العمل يمكنه أن ينتظر.
"تأخرت" ألقاها المدير متسائلاً فقد تأخرت ساعة كاملة، قلت له "أعلم" وأكملت سيري نحو مكتبي، لحقني ليخبرني أن هذا يعني إنذار ثاني، "أعلم" قلتها دون أن ألتفت له، أخبرني أنها آخر مرة لأن الثالث يعني إنهاء عملي، "أعلم" قلت وأنا أجلس في مكتبي، متى سيتركني الأخ سوبرغلو وشأني؟
يوم ممل آخر، لم ينسى المدير أن يذكرني مرات عديدة بأنني تأخرت حتى سئمت سماع كلامه وتخيلت أنني أرميه من النافذة "فهمت، وأخبرتني مرات عديدة، لا حاجة لأن تخبرني مرة أخرى، أعطني الإنذار ولينتهي الأمر" لكنه كالدبور لا يمكنه إلا أن يزعجك وهو يحوم بين الموظفين بحثاً عن قطرة إنتاجية يعصرها من أرواحهم، يفعل ذلك مع الجميع إلى أن يصل إلى زاوية وهناك يتغير شيء ما في شخصيته فقد وصل إلى الموظف المفضل لديه، "فلان" إن أخطأ فلن يجد في ملفه أي إنذار، إن تأخر فله عذره، إن غاب فهو مريض، وإن خرج قبل وقت انتهاء الدوام فهو في حاجة ولا بأس بذلك، أما أنا وغيري فليس لدينا غير أن نسمع ما يلفظه عقل هذه الآلة العجيبة.
لمحني قبل أن أخرج من مقر العمل وألقى علي الأمر: "عليك أن تعوض الساعة التي أخذتها أول الصباح"، لم أرد عليه نظرت وأنا أفكر بما يجب علي فعله لكي أتجنب إرسال لكمة نحو وجهه، قلت "لا يهمني" وخرجت، حقيقة لم أعد أهتم، لم أعد أكترث، لتذهب الإنتاجية والعمل إلى الجحيم.
كان يوماً تعيساً، مررت على أحد المحلات واشتريت مجموعة من الحلويات والأطعمة الجاهزة والكعك، تناولت هذا الطعام وأنا أشاهد التلفاز، أكره عملي، أكره مديري، ما الذي يبقيني هناك؟
***
يوم جديد، عيون ثقيلة، العالم لا يكترث ولا يهمني ذلك، قررت في هذا الصباح أن يكون يومي مختلفاً، سنوات تمضي وأنا لا أهتم بصحتي، تعاسة العمل أحملها معي إلى المنزل ثم إلى بطني وجسمي وإلى فراشي ولا أتخلص منها هناك، مزيد من التعاسة كل يوم ولسنوات، اليوم لن أسمح للمزيد منها أن يدخل حياتي، قمت على غير العادة نشيطاً لأنني سأعد إفطاري بنفسي وسيكون ساخناً ولذيذاً، ليذهب المدير إلى الجحيم.
البانكيك أمره بسيط، تحتاج لطحين وسكر وقليل من الملح مع ملعقة شاي من بيكنج باودر، أخلطها جيداً، في وعاء آخر ضع ملعقة زبدة ذائبة مع بيضة وحليب وإن شئت ضع نكهة الفانيليا، اخلط المكونات كلها وسيكون لديك خلطة بانكيك، يمكنك أن تصنع ما شئت من الأقراص، شخصياً أفضلها سميكة وأضع فيها قطع حلوى وأحياناً ثمار توت العليق أو الزبيب أو حتى المكسرات وأحياناً الجبن، اليوم أعددتها بدون إضافة شيء ووضعتها فوق بعضها البعض وفوقها وضعت ملعقتي عسل أسود.
تناولت إفطاري مع عصير برتقال، ليس إفطاراً مثالياً لكنه خير من أي شيء آخر كنت أتناوله في الأيام الماضية، كان الوقت مبكراً ولا أدري ما الذي يمكن فعله الآن، الأسواق لم تعد تفتح إلا متأخرة، ركبت السيارة وذهبت نحو حديقة قريبة، هناك مشيت دون هدف، أنظر في كل شيء حولي ولا أدري لم أشعر أنني أكتشف العالم لأول مرة، كل شيء لم أنتبه له عاد يشد انتباهي، الهاتف رن فأسكته دون أن أنظر في شاشته، رن مرة أخرى فأسكته، لم يمضي وقت طويل حتى رن للمرة الثالثة وهنا أسكته وأغلقته، أعلم أن الأخ سوبرغلو يتصل بي ليلقي علي محاضرة أخلاقية حول الإنتاجية والعمل والتقدم الحضاري.
خرجت من الحديقة واتجهت نحو أحد المقاهي التي لا أزورها إلا قليلاً، لم يكن أحد هناك سواي والعاملين في المقهى، أخذت صحيفة وجلست أقرأ وانتظرت كوب القهوة الكبير.
بعد جولة دون هدف في مركز تجاري عدت إلى المنزل، يبدو أنني لن أذهب إلى العمل اليوم، علقت ثوبي على ظهر باب غرفتي، وذهبت نحو الهاتف، شغلته، بعد ثواني وصلتني 3 رسائل جديدة وكلها من مديري، فتحت آخر واحدة لأقرأ "أنت مفصول"، قرأت الرسالة مرات عدة، انتهت علاقتي بعملي ... أخيراً.
18 تعليقات:
رغم طول التدوينة إلا أني قرأتها حرفا حرفا ، لكم أحب هذا الأسلوب في الكتابة .
جعلتني أعيش ما تكتبه ، و أحس ما تحسه ، لا أدري إذا كان ما كتبت واقعا أو تخيلات لكنك جسدت لي تلك الأحداث و جعلت الكتابة ولو أنها تقص أحداثا شخصيا إلا أنها تضم القارئ إليها و تدعوه لقراءتها
وفقت ، للأفضل إن شاء الله
ممتاز يا عبدالله .... وأتمني أن يتبع هذه الرواية القصيرة الحزينة آخري تحكي عن هذا الرجل الذي وجد الأفضل :D
تدوينة رائعه، اتسائل و بشدة هل هي واقعيه!!في حال كانت واقعيه، قد تصاب بوابل من الانتقادات اللي تصفك بالكسل و الجنون و التقوقع في عالمك. انت مختلف، و احاول بقدر الامكان تقبل الاختلافات، لكن ضل عقلي الداخلي يصفك بهذه الاشياء! لكن ذكرت نفسي، المختلف دائما سيعامل هكذا، و انا شخصيا تمت معاملتي كذا حتى و انا خارج دولتي، لكن مجتمع دولتي انتقل معي و بدا ينتقدني، يرفضني و يبتعد قليلا عني.
رائعة
@RaNiOuChA: شكراً، القصة خيالية.
pǝɯɐɥ pǝɯɐɥoɯ: ألا ترى أن آخر كلمة تعني أنه على الأقل تخلص من سبب تعاسته؟
@Bonaef: خيالية ومستوحاة من الواقع، شخصية المدير ليست مبالغة وكذلك شخصية كاتب القصة، المدير متسلط لا يفكر إلا في الإنتاجية ولا يهتم بالناس، الموظف من ناحية أخرى ليس لديه الجرأة لكي يستقيل من العمل بنفسه.
mickey: شكراً.
أسلوب رائع
من جهتي أرى أن الموظف فعل الصواب تماما
لو أنك تؤلف قصة قصيرة مشابهة في كتاب ستجد إقبالا كبيرا عليها
ننتظر بقية الأجزاء :)
الصراحة من أجمل تدويناتك وإن كنت أعتب عليك في بعض المواضيع
ربما مديرك لا يفهم وعملك ممل والقوانين صارمة ، لكن عليك أن تتكيف مع الوضع ، أنظر إلى عالمنا العربي المأساوي ناس بلا عمل وعمل بلا ناس
ثم أنصحك أن تتسايس في التعامل ، ان كنت تريد شتم مديرك فقل "معاك حق استاذي" ، الحياة في هذا الزمن يتطلب ذلك
ولكن اعترف بأني استمتعت بالقراءة وأرجو أن يقرأ التدوينة نفسها مديرك يوماً من الأيام
@Omar Kharsa: شكراً، ما أود فعله هو كتابة مجموعة قصص قصيرة أجمعها في كتاب، لدي اثتان الآن، الأولى بعنوان "بين بابين" وقد كانت محاولتي الجادة الأولى، أما هذه فلا أظن أنني سأكتب جزء آخر لها، لدي فكرة لجزء ثاني لكنه حقيقة متشائم أكثر من اللازم وهو واقعي أيضاً، سأفكر بالأمر لعلي أكتبه.
@XOF: لو قرأت التعليقات أخي ستجد أنني أقول بأنها قصة خيالية، أنا لست موظفاً ولم أعمل في حياتي في أي وظيفة رسمية، رسمياً أنا عاطل عن العمل، أما المسايسة والسباحة مع التيار فهو ما لا أتقنه، لو كنت أنا شخصية القصة ستكون القصة أقصر بكثير لأنني سأصطدم بالمدير منذ أول يوم، لا أتحمل أصحاب السلطة الذين لا يحترمون الموظفين ومن يعملون دونهم وأبادلهم عدم الاحترام.
اكتب الجزء الثاني اكتبه فنحن بانتظاره مهما كان متشائما :)
لكم اسعدتنى قراءة كل جملة فى تلك القصة القصيرة , و اظن ان كثير منا هذا الرجل , وقد هدأ خاطرى حينما عرفت انها ليست حقيقة.. تمنياتى لك بحياة ماتعة نشطة من نوع اليوم الاخير فى القصة لكن بغير ذات العاقبة.
القصة أعجبتني جداً , الحمد لله انها خيالية :) , سأجرب خلطة البان كيك :)
مقالة أكثر من رائعة وهي بالفعل تصف الحال الكئيبة للموظف، فكل يوم هو مثله. روتين ممل ولا نهاية له.
أشجعك أخي علي ان تقوم بكتابة أكثر من سلسلة لتلك القصة وتضعها في كتاب كما قال الاخ عمر خرسة. فقد تكون يومًا من الايام الدفاع لشخص ان يترك وظيفته المملة ويبدا باللحاق باحلامة ويبدا مشروع حياته.
علي الجانب: أن أيضًا عاطل عن العمل مثلك وبكل بساطة في عيون أقاربي وأهلي فاشل، عملت بوظيفة لمدة شهر واحد ولكن لم اطقها وقدمت استقالتي بعد هذا الشهر من رائي من يذوق طعم حرية العمل الحر لا يمكن ان يعمل بوظيفية روتينية فهو يبحث بكل يوم عن تحدي جديد وصعوبة لكي يتخطاها.
كلي شغف لقراءة الاجزاء القادمة :)
@عمر خرسه: لعل لدي فكرة أفضل، سأرى.
@مصطفى محمد مصطفى: شكراً أخي :-)
@Ahmad: جرب، من أسهل الأكلات وهي مفضلة لدي :-)
@Andrew Azmi: حالياً أفكر في قصة بنهايتين، واحدة متشائمة والثانية متفائلة، كلاهما واقعي ولا أدري أي واحدة أختار، أما ما قلته عن العمل الحر فهذا صحيح، شخصياً لم أعمل في التجارة بل في التطوع وقد كان عملاً حراً من ناحية تنوع الأنشطة وكان تحدياً يومياً ممتعاً، للأسف لم يستمر الوضع كما كان واضطررت للخروج من المؤسسة، الآن من الصعب تقبل وظائف مكتبية مملة.
تدوينة تصف بالفعل حال الكثيرين , احياناً كثيرة اشعر بهذا الملل وفي الرغبة في عدم اكمال حياتي بهذا الشكل الممل , لكن تختلف ظروف كل شخص في القدرة علي التخلص من هذا الواقع الممل , من حوالي عام كتبت قصة قصيرة بعنوان روتين شبيهة بالقصة التي رويتها http://aykaalam.blogspot.com/2011/06/blog-post_02.html
هنيئاً لك ، أنت شخص متميز بكتاباتك ، تملك حس ابداعي و تعرف جيداً كيف تثبت رقبة القارئ وتسمّرها بالشاشة. أقسم بالله أني أتمنى أن أجلس معك ساعة واحدة ، و أعطيك عوضاً عنها ضعف ما الـ 8 ساعات اليومية التي يمن بها عليك..
هل لديك حساب في تويتر ؟
إن كنت ستتكرم علي بشيء ، فهو مقاطع فيديو يومية توثق بها حياتك ، كل مقطع 15 دقيقة ، ستحصل على مبلغ جيد وستستمتع.
موظف - نظم معلومات :-) .
@mohamed m sayed: لأن هذا الواقع يتكرر من حولي كتبت هذه القصة على أمل أن يتحرك البعض ليتخلصوا من وظائف تجلب لهم التعاسة ويبدأوا حياة أخرى لعلها تكون حياة أفضل.
@Abdullah Alshammeri: شكراً جزيلاً على الكلمات الطيبة، لدي حساب في تويتر وهو Abdulla_79 أما القصة فقد كتبت في التعليقات بأنها خيالية، أنا أخي لا أعمل في وظيفة ولم أعمل في أي وظيفة طول حياتي، لو وثقت حياتي ستكون المقاطع مملة :-)
و كأنك وصفت حالي في عملي السابق الفرق في القصة أنني لا أتأخر و إن تأحرت فالمدير لا يجرؤ على مواجهتي بذلك لأنه أجبن من أن يواجه موظفيه
من فترة كبيرة لم اقرا تدوينةرائعة بهذا الشكل انت مبدع حقا وننتظر منك المزيد
بالتوفيق انشاءالله
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.