الأربعاء، 21 ديسمبر 2011

الرحلة الثالثة - 2

في اليوم التالي بعد تغيير سجاد المسجد خرجنا من بيت داوود في الصباح الباكر بعد إفطار خفيف، وجهتنا ستكون إلى منطقة ساغرا وهي منطقة بعيدة أخبرني داوود أنها فقيرة وفيها مسلمون ليس لديهم حتى مسجد ولا يصلون جماعة إلا صلاة العيد ويحتاجون من يعلمهم الدين وستعرفون سبب ذلك لاحقاً.

في الليلة الماضية لم أنم جيداً بسبب الباعوض وكنت بحاجة للنوم في الصباح، الطريق بالطبع لن يعطيني فرصة فهو يعمل كخلاط طعام أو مطحنة عظام، لكن التعويض كان الجو البارد الجميل صباحاً الذي يشجعني على فتح نافذة السيارة لأكتشف بعد دقائق أنني الوحيد الذي يفعل ذلك بينما البقية يعانون من البرد فأغلقتها، في الصباح لا يتحدث من معي في السيارة كثيراً لذلك نسير لمسافات طويلة بصمت، الجميع ينظر حوله، أشجار لا تنتهي، بيوت بين الأشجار وفي ساحاتها أطفال يلعبون وثيابهم بالكاد تغطيهم، طفل يستخرج الماء من بئر، مزارع الأرز والموز وجوز الهند، بحيرات طبيعية صغيرة وكبيرة، والبقر ... البقر في كل مكان وقد سميته "ملوك الشوارع" لأن الكل يتجنب البقر، للبقرة الحق في الطريق قبل كل شيء آخر، إن وقفت بقرة في نصف الطريق فلن يحركها شيء على عكس كل المخلوقات الأخرى وبالتحديد الكلاب التي تراها في كل مكان أيضاً لكنها تتجنب السيارات، أشعر بأن البقر هناك يفكر ببطء شديد - أممممم ... سيارة قادمة ... أممممم ... هذه الأعشاب تبدو لذيذة أمممم! - هكذا أتخيلها تفكر!

توقفنا بجانب أرض خالية وفيها بضعة رجال أحدهم يلبس عمامة بيضاء صغيرة وثوباً أبيضاً وهذا يعني في الغالب أنه إمام مسجد وهو بالفعل كذلك، في الأرض حفرة مربعة وبجانبها وعاء يحوي إسمنتاً، أخبرني داوود أن الإمام بادر ببناء مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة لأنه لا توجد أي مدرسة من هذا النوع في تلك المنطقة، أما الحفرة فهي أساس المدرسة ومن عادتهم أن يضعوا قليلاً من الإسمنت فيها ويبدأون ذلك باسم الله وحمده ثم التكبير، أخذ داوود شيئاً من الإسمنت ورماه في الحفرة وفعل ذلك الإمام وفعلت ذلك أيضاً، بإذن الله بعد عام أو أكثر قليلاً ستكتمل المدرسة وستكون صغيرة في البداية على أمل أن تكبر في المستقبل وتستقبل مزيداً من ذوي الاحتياجات الخاصة.
مدرسة جديدة
أرض المدرسة وأساسها، بعد عام إن شاء الله ستكون بناء مكتملاً

أكملنا السير وتوقفنا عند مطعم لنرتاح قليلاً، هكذا يفضل داوود السفر، السير قليلاً ثم التوقف قليلاً، شخصياً كنت متعباً فخرجت لالتقاط صورة للمطعم من الداخل ثم عدت إلى السيارة لأنام ولم أنم طويلاً حتى جائني صاحب المطعم وفي يده كوب عصير ليمون خلط مع مياه غازية والنتيجة كانت غير مألوفة لكن مقبولة بل أكثر من ذلك، أكلمنا سيرنا بعد ذلك ثم توقف داوود فجأة بجانب 3 رجال يجرون جاموساً زينوه بأقمشة حمراء وبرتقالية وسماهم داوود باسم لا أتذكره، المهم أن هؤلاء يستعرضون مهاراتهم بالحديث والثور يستمع لهم ويتحرك بحسب الكلمات، يهز رأسه ليقول لا أو نعم، يخفض رأسه كتحية للناس، أعطاهم داوود مبلغاً من الروبيات ورحلنا، هكذا يكسبون رزقهم.
سيرك متحرك
الثور يهز رأسه والذباب يتطاير في كل مكان

وصلنا إلى مزرعة في ساغرا وهناك سنبيت الليلة إذ أن الطريق أخذ منا خمس ساعات ونحن متعبون، صلينا الظهر والعصر وانطلقنا نحو منطقة أخرى لنرى كيف يعيش المسلمون بلا مسجد هناك، منطقة ريفية زراعية فقيرة، كنا نرى رعاة البقر والجاموس وهم يقودون قطعانهم الصغيرة نحو منازلهم أو مزارعهم، توقفنا قبل قطيع ماشية يزيد عددها عن الخمسين وربما أكثر ويقودها طفل صغير بعصا قصيرة واحتجنا لبضع دقائق لكي نعبر الطريق مرة أخرى، طلاب يمشون من مدرستهم وفي الغالب عليهم قطع مسافة كبيرة حتى منازلهم قدرها داوود بعشر كيلومترات، وهناك طالبات يقدن دراجات هوائية، هنا خطرت في ذهني أنه من الممكن للناس التبرع للطلاب بدفع قيمة دراجة هوائية، كم ستختصر عليهم من الوقت والمسافة؟

كنا نمر بمزارع الأرز وهي في كل مكان، وقتها كانت حقول الأرز صفراء اللون وتنتظر حصادها، رأيت رجالاً ونساء وأطفالاً يعملون في مزرعة كبيرة يجمعون فيها القش ويضعونه فوق الأرز ليصبح مخزناً يقي الأرز الشمس والمطر ويصبح المخزن كبيت صغير لا نافذة فيه ولا باب، وبجانب المزرعة هناك مزارع الشعير والمطاط بأشجارع الطويلة الرفيعة، نساء يغسلن الملابس في بحيرات طبيعية تنتشر فيها أزهار اللوتس.

اللوتس
اللوتس، تمنيت لو أن كاميرتي يمكنها تقريب الصورة أكثر

في الطريق رأيت من بعيد امرأة تجلس بجانب الطريق وتلبس ملابس زاهية زرقاء وحمراء، لكن كان هناك شيء غير طبيعي في المرأة ولم أعرف ما المشكلة حتى اقتربنا وكنا نسير بسرعة عالية وللأسف استحيت أن أطلب منهم التوقف لالتقاط صورة، ما رأيته كان تمثالاً صغيراً بتفاصيل دقيقة بعض الشيء تجعل من يراه من بعيد يظنه امرأة حقيقية، أبديت دهشتي فأخبرني داوود أن بعض قرى الهندوس يحدث فيها خلاف فيصنعون شيئاً مثل هذا التمثال فيكون التمثال وسيلة لنقل الشر الذي حل بهم إلى مكان آخر، إن تكرر الخلاف سيعودون للتمثال وينقلونه لمكان آخر، لم يخطر على ذهني في ذلك الوقت أن أسأل: لم امرأة؟ لم لا يرسمونه على شكل شيطان مثلاً؟

أخذنا وقتاً طويلاً حتى وصلنا للمنطقة التي نريد، غربت الشمس وبدأ الظلام يغطي المنطقة وهي منطقة ريفية لا تحوي أي إضاءة للطرق، يمكنك أن ترى النجوم في سمائهم هناك، وصلنا إلى مسجد صغير وقد بني مؤخراً وتبرع بالأرض جار للمسجد وهو مسجد متواضع، الجدران عارية لا يغطيها شيء، السقف معدني، والمدرسة الصغيرة وهي مساحة يجلس فيها الطلاب ومدرسهم على الأرض، صلينا المغرب والعشاء هناك وجلسنا معهم، أحدهم جاء بأكواب صغيرة وفيها حليب طازج ساخن، على بساطة ما قدموه وجدته أفضل ما شربته وأكلته في رحلتي.

تحدثنا مع الإمام الذي تبين لنا أنه جاء من بعيد وليس من سكان المنطقة، جاء من من ولاية أتر بارديش في شمال الهند ومن مسافة 2400 كيلومتر تقريباً، تحدثوا عن حاجتهم لإكمال بناء المسجد وعن حاجتهم لكتب تعليمية ومصاحف، كان داوود يحدثني كيف أن ملايين تنفق في بناء مساجد كبيرة في كيرلا في حين أن الناس ليسوا بحاجة ماسة لفعل ذلك وهنا في ساغرا مثال لحاجة المسلمين لمسجد صغير لن يكلف الكثير وحاجتهم أيضاً لمن يعلمهم دينهم.

ذهبنا إلى منطقة أخرى تبعد 4 كيلومترات وهناك رأينا أرضاً خالية يريد الناس فيها بناء مسجد ومدرسة، في مدخل القرية كان هناك احتفال ما، خيمة وأضواء وغناء تبثه مكبرات صوت لا تحتاج للراحة، كان هذا احتفالاً بعاشوراء يشارك فيه المسلمون والهندوس، المشكلة أن المسلمين يشاركون في احتفالات الهندوس وهي احتفالات تقدس شيئاً من آلهتهم، في الماضي كان المسلمون يحتفلون بعاشوراء بدق الطبول ثم توقفوا عن هذه العادة التي أكملها الهندوس وقد رأيناهم وسمعناهم وهم يرقصون على دق الطبول.
مسجد في منطقة فقيرة
المسجد وجلسة مع أهل المنطقة
مسجد في منطقة فقيرة
سقف المسجد
مدرسة
المدرسة الدينية بجانب المسجد

لم نجلس كثير في هذه المنطقة وعدنا إلى المزرعة، كنت متعباً من السفر وركوب السيارة طوال اليوم وبحاجة ماسة للنوم، غداً لدينا يوم آخر نعود فيه وسيكون هو بدوره متعباً، بدأناه بجولة صباحية في المزرعة ثم زيارة لشلالات معروفة ثم عدنا إلى المزرعة لنأكل الغداء ونعود إلى بيلتنجادي بعد ذلك، طريق العودة كما أخبروني سيكون مختلفاً وأطول قليلاً مقابل أن يكون مريحاً أكثر وقد كان، لكن لم أستفد من ذلك كثيراً، التفاصيل في الموضوع التالي إن شاء الله.

6 تعليقات:

جسري يقول...

رحلة جميلة، (نيَّالك) هذا نوع من الحسد الأبيض :)

لفت نظري "البقر"، أعلم أن في الهند أناسٌ يعبدون البقر، ما مدى صحة هذا الكلام سيد عبدالله؟

كيف المناخ هناك؟ وما هو الفصل الذي كان سائداً أثناء رحلتك؟

عبدالله المهيري يقول...

@جسري: كلام صحيح معروف، يتبركون بالبقر وبعضهم يغسل نفسه ببوله - أجلك الله - ولهم معابد خاصة لها ولا يأكلون لحمها، بالطبع الوضع مختلف من مكان لآخر وبحسب طبقات الناس، بعضهم يأكلون لحمها ولا أدري لم هم استثناء.

المناخ في رحلتي كان بارداً صباحاً أو لأقل مثالي، يصبح حاراً في الظهيرة وقد كان هذا غريباً لأنه فصل شتاء يفترض أن يكون أبرد قليلاً.

بسام حكار يقول...

أخي عبد الله ارجو أن تكثر لنا في الكلام عن عادات واسلوب حياة اهل المناطق التي زرتها، فهذا ما احبه في السفر، التعرف على أأناس جدد وثقافات جديدة.

عبدالله المهيري يقول...

@بسام حكار: سأحاول بقدر الإمكان.

Dr Niaz يقول...

اسم الثور الملون فشو بتفخيم الفاء وهي لغه جنوب الهند المالايلم كما يسمونها

عبدالعزيز الزرعوني يقول...

أخي عبدالله..
هل لي أن أسأل عن تكاليف الدراجات الهوائية هناك؟
فعلاً لفتت الفكرة انتباهي..
هل لك أن تستفسر من داوود عن سعرها؟