الأربعاء، 1 ديسمبر 2010

صندوق الخشب والانتماء للوطن

نوع من التعاسة أن يكون هناك فجوة بين تصورك للحياة الصحيحة وحياتك الفعلية، تصورك مثالي وحياتك ليست كذلك، تصورك متفائل مشرق وحياتك ليست كذلك، تصورك يجعلك أكثر تعاسة لأنك لا تستطيع أو لا تريد حقاً الوصول له فإما أن تسعى للوصول له أو تتنازل عنه وإن تنازلت سيبقى هناك سؤال معلق فوق رأسك طول حياتك: ماذا لو كانت حياتي مختلفة؟ ستفكر في تصور آخر لحياتك ولن تستطيع التوقف عن التفكير في الصورة المثالية فإما أن تسعى أو تقرر أن تبقى تعيساً لأن التعاسة تبدو أسهل بكثير.

أفكر كثيراً في موضوع التعليم والمهارات والعمل والانتماء للوطن وأجد رابطاً بين الحياة المتفائلة كل ما ذكرته سابقاً، التعليم لا أعني به المدرسة فما يحدث في المدرسة ليس النوع الوحيد من التعليم بل التعليم خارج المدرسة أكثر أهمية وتنوعاً وارتباطاً بحياة الناس، التعليم الذاتي بأنواعه هو الأهم في رأيي حتى لو كان المرء متفوقاً في المدرسة والجامعة يجب علي أن يكمل تعليمه بعد ذلك بالقراءة والممارسة العملية لمهارات مختلفة.

أما العمل فهو أي عمل يمكن أن يقدم خدمة ولو كانت بسيطة للمجتمع، ولاحظوا أنني أقول العمل وليس الوظيفة، ليس هناك وظائف كافية لكن يجب أن يكون هناك عمل لكل شخص، أي مجتمع يترك بعض أفراده بدون عمل سيعاني من مشاكل هؤلاء الأفراد، العمل يعطي للشخص شعوراً بالانتماء للمجتمع من حوله وعدم توفر عمل يجعله مبتعداً عن هذا المجتمع حتى لو كان يعيش فيه كل يوم، الابتعاد الشعوري هذا يجعله يفقد تدريجياً الإحساس بالانتماء للوطن ولذلك تجد كثيراً من الناس يسافرون ويعملون في بلدان مختلفة ويشعرون بالانتماء لهذه البلدان لأنهم وجدوا قيمة يقدمونها في هذه البلدان وبالتالي اكتسبوا احتراماً وتقديراً لأنفسهم.

بعض الحكومات لا تفهم هذا وترى الأمر بمنظور بارد ميت، هناك نسبة من البطالة ويجب علينا أن نوفر فرصاً وظيفية، هذا كل شيء، لكن هذا ليس كل شيء، في بعض الأحيان لا يمكن توفير فرص وظيفية لكل شخص فماذا سنفعل بهؤلاء العاطلين عن العمل؟ ماذا سيفعل العاطلون؟

هناك خيارات مختلفة، المعروفة منها هي أن يعيش العاطل حياة سلبية فلا ينتج ويبقى متشائماً طول حياته ويبقى عالة على المجتمع، احذر أن تلقي باللوم كله على العاطل فهناك مجتمعات لا توفر الفرصة وبالتالي الهجرة تكون خياراً يفكر به المرء عندما لا يجد فرصة في بلده، الخيار الثاني أن يصبح العاطل شخصية فاسدة ويرتكب الجرائم لكي يستمتع بحياته، يرتكب جرائم في حق المجتمع الذي لم يهتم به فلم يهتم العاطل بهذا المجتمع؟ أنا لا أعطي عذراً هنا للسلبية أو الجريمة والمعصية بل أشرح الأمر، الناس مختلفون ... هذا أمر بديهي.

بعض العاطلين سيحاولون فعل شيء ... أي شيء، ربما البحث عن فرصة تطوع، ربما المشاركة في الشبكة بأي فائدة يمكنهم تقديمها، ربما مساعدة الآخرين بأي شيء، وهؤلاء يعانون من أمور، أولها نظرة المجتمع لهم، فالوظيفة مهما كانت تعطي الإنسان شيئاً يفتخر به فهناك فرق كبير بين أنا أعمل وأنا عاطل عن العمل حتى لو كان العمل في وظيفة إدارية روتينية مملة، الشخص يذهب للعمل ويلتقي بآخرين وينجز بعض الأعمال ويجد نفسه منتمياً لجزء من المجتمع.

أما المعاناة الثانية فهي البحث عن عمل، لاحظوا مرة أخرى أنني أقول عمل وليس وظيفة، عندما تسد الأبواب في وجوه من يريدون تقديم الخير للمجتمع فلا يجدون فرصة لفعل ذلك سيخسر المجتمع، هؤلاء العاطلون طاقة كبيرة يمكن استغلالها في أي شيء مفيد، لا أظن أن أحدهم سيرفض العمل متطوعاً في أي مجال لو وجد فرصة، لكن الفرص في بعض البلدان قليلة ونادرة أو غير موجودة.

ضعف الانتماء للوطن وضعف الحس الوطني لا يمكن علاجه بشعارات واحتفالات وأغاني ومسيارات، هذا كله لن يقدم شيئاً مثل ما يقدم يوم واحد من العمل الجاد المفيد للمجتمع، إن أنفق درهم لحفل فلا بد في مقابله أن ينفق ألف درهم لتوفير فرصة عمل لأي عاطل، ومرة أخرى أقول عمل وليس وظيفة.

أدرك جيداً أن ما قلته كلها سابقاً تعرفونه وأنا فقط أريد ترتيب هذه الأفكار في عقلي ... أعود للتعليم.

سألت في تويتر عن وجود معاهد ومدارس تقدم دورات مختلفة، لا أعني دورات في الحاسوب والإدارة بل في تنسيق الحدائق مثلاً أو النجارة أو أي شيء من مهارات الحياة العملية المختلفة، بعد نصف ساعة لم أجد جواباً واحداً وعدد المتابعين لي في تويتر وصل إلى 1485 شخصاً ويأتون من بلدان مختلفة مع ذلك لم أجد جواباً واحداً، أشرت لذلك وجائت أجوبة قليلة لا تكفي.

نحن بحاجة لمدارس تعلم هذه المهارات، الزراعة، تنسيق الحدائق، تنسيق الزهور، اللحام، النجارة، الفنون بمختلف أنواعها، الرياضات بمختلف أنواعها، الطبخ، نعم الطبخ! ما المشكلة في ذلك؟ لكي يكون لدينا مجتمع صحيح البدن لا بد أن يكون لدينا مهارة الطبخ وإعداد وجبات صحية لذيذة.

هناك مجالات كثيرة يمكن تقديمها في مثل هذه المعاهد ولا شك لدي أن بعض البلدان العربية فيها هذه المدارس أو المعاهد لكن لا أعرف شيئاً عنها، وعندما أقول أننا بحاجة لهذه المدارس يجب أن تكون الصورة هنا مدارس للجميع، للكبار والصغار، للرجال والنساء، لا أعني مدرسة مخصصة لطلاب المدارس يتعلمون فيها ليحصلوا على شهادة ثم عمل بل مدرسة للجميع، أي شخص يريد أن يتعلم أي شيء يمكنه أن يشارك في هذه المدارس.

لماذا نحن بحاجة لهذه المدارس؟ يمكن كتابة كتاب كامل للإجابة عن هذا السؤال لكن لدي شعور هو ما يدفعني لقول ذلك، أشعر بأن حياة الناس في كثير من البلدان تدور حول الاستهلاك وهذه ليست حياة، أيامهم رتيبة مملة تدور في دائرة واحدة، العمل والبيت وربما مكان ثالث كالمقهى أو حتى أماكن الفجور، يسدون حاجات في نفوسهم بشراء الأشياء، السيارات أو الملابس والأحذية وكلما كان ما يشترون غالياً وفخماً كان ذلك خير لهم لكن ككثير من الماديات ما يشترونه لا يحقق لهم سعادة دائمة لأن هناك دائماً شيء جديد أفضل أو مختلف وما اشتروه أصبح قديماً، هؤلاء الذين يدورون في هذه الدائرة يضيعون حياتهم بعدم تجربة ما يمكن للحياة أن تقدم لهم وما يمكنهم أن يقدموا للمجتمعات من حولهم.

لا تذهب بعيداً فلا أقصد أن يحقق الناس كلهم إنجازات عظيمة فهذا أمر بعيد المنال بل أعني الصغيرة مثل أن يزرع شخص ما حديقته بالأزهار ثم يهديها لزملائه وأسرته وجيرانه، البعض تضيع حياته دون أن يكتشف متعة زراعة شجرة، لم يجرب أن يطهو طعامه بنفسه أو يصنع صندوقاً خشبياً لحفظ المتاع أو يسافر لمكان بعيد عن المدن ويعاني ويتعب ليرى الجبال وجمالها ويختلط بالناس من ثقافة أخرى.

نعم أنا أحد هؤلاء إلا أنني على الأقل لا أؤمن بأن الاستهلاك وشراء الغالي سيحقق لي شيئاً من السعادة، وقد بدأت خطوات بسيطة نحو تعلم مهارات عملية وسافرت مرتين للهند في رحلة أعلم جيداً أن البعض سيرفض أن يرافقني فيها لأن فكرته عن السفر لا تبتعد كثيراً عن لندن وباريس والتسوق فيهما.

لا شك لدي أن هناك أناس يمارسون مهارات مختلفة، نحن بحاجة لهؤلاء في الشبكة، بحاجة أن يخبروننا في مدونة أو حتى مقالة عن ما يفعلونه، قد يظن أحدهم أن هوايته بسيطة لذلك قد لا يكتب عنها لكنني أرى في ذلك ضياع فرصة لتقديم الخير للآخرين، لذلك إن كنت تعرف أحدهم جره إلى الشبكة بأي وسيلة ودعه يخبر الناس عن هوايته، سيعلم الآخرين ويلهمهم وقد يحصل على فرصة لكسب الرزق ... من يدري؟

بعد كل ما قلته قد يسأل أحدهم: ما هي خلاصة كلامك؟

الخلاصة هي: عش حياتك! ... والكلام موجه لي قبل الجميع.

8 تعليقات:

أسامة يونس يقول...

في الأردن والسعودية معاهد التدريب المهني توفر دراسة وتعلم الأعمال المهنية مثل الميكانيك النجارة الإلكترونيات وكثير من التخصصات، هناك شروط للإنتساب لها وحسب التخصص يوجد متطلبات مثل بعض التخصصات تحتاج إلى الصف الثاني ثانوي علمي مثلا وهكذا، والدراسة فيها برسوم رمزية أو مجانية وبعضها يعطي مصروف للطلاب المنتسبين لتشجيعهم على الإستمرار.

مع العلم أن معظم الخريجين يحصلون على وظائف في كبرى الشركات للعمل كفنيين.

أذكر أن صديق لي من السعودية لم يكمل الثانوية ودرس ميكانيك وعمل في شركة تويوتا في السعودية.

كان هناك معهد عالمي مختص في التدريب المهني عن بعد، وكنت ناوي أسجل فيه واتعلم خياطة :) لكن أكملت جامعة
وانشغلت.

لكنه الأن تحول إلى شركة للتعليم عن بعد وليس للتدريب المهني. http://www.thomsonlearning.co.uk/

غير معرف يقول...

انا أدرس في معهد سعودي يسمى ( المعهد المهني ) و تخصصي 'نجاره ' مع أنني واجهت صعوبات من المجتمع بسبب التخصص لكن المستقبل مضمون في كبرى الشركات ، لا يقبل المعهد الا بشهادة ثانوية و به تخصصات عديدة منها ' ميكانيكا و نجاره و حداده .

مريم يقول...

بما أني (عواطلية) فأتفهم قولك أن لاأحد سيرفض العمل تطوعًا إن وجد الفرصة. سبق وأن قدمت نفسي تطوعًا ، لكن محد عطاني وجه :/
خلال قراءتي لما كتبت خطر في بالي دور اللجان الإجتماعية في الأحياء -عندنا في السعودية.
تركيزها ترفيهي، دورات حاسب وانجليزي ، الخ
لاأعلم ان كان لها نشاطات أخرى لأنها شبه ميتة وقليل من يعرف عنها.
لكن أتصور لو توسع نشاطها باعطاء دورات للمهارات التي ذكرتها سيكون لها بالفعل دورًا في تغيير حياة الناس المملة، وتخليهم يعيشون حياتهم ;)

هذرت واجد :)
تدوينتك ملغمة فوائد وخلاصات ..
جزاك الله خير

عبداللطيف العماري.. يقول...

جزاك الله خير أخي عبدالله ،،فعلاً الانسان يحتاج لآمور فنية كثيرة في حياتة الشخصية(الطبخ،الغسيل...الخ ) وقد أدركت هذا الكلام كثيراً عندما هاجرت الوطن للبحث عن فرصة عمل والحمدلله تعلمتها ذاتياً لأعتمد على نفسي وأنا الأن اتمتع بها ولدي شعور لايوصف وأيضاٌأوفر نوعاً ما من الدخل المادي ..بالتوفيق للجميع ..

مبارك محمد يقول...

بداية أدعوك لزيارة مجلة عرب هاردوير لأنه تم الفراغ منها:
www.arabhardware.net
حتما ستعجبك.

أعود لموضوعك الرائع.
التفريق بين الوظيفة والعمل، هذه فلسفة جديدة، لا أدري إذا سبقك إليها أحد، لكن بمجرد ما قلت "عمل وليس وظيفة" انقدحت وجهة نظرك في عقلي تلقائيا وبدون جهد تفكير، لذلك أدعوك لكتابة كتيب بعنوان "الانتقال من عصر الوظيفة إلى عصر العمل"، المجتمع الغربي تجاوزنا بعقود إن لم أقل بقرون في هذا المجال.

مع قناعتي بدفاعك عن العاطلين عن العمل، أرى بأنك لم تضع أي تبعات عليهم، استطيع أن أتفهم وجهة نظرك وأؤيدها، لكن بهذه الطريقة سيتلف حولك العاطل والباطل، وأعني أنه يجب أن تكتب مقالا آخر تعتب فيه على العاطل وتوبخه لأن أسباب العطل كثيرة، فمنها أنه لا يرضى (بالعمل) إذا كان راتبه متدنيا، ومستعد أن يبقى بدون عمل لسنوات بحجة أنه يريد راتبا أكثر بنسبة 20% مثلا.
بالنسبة لما ذكرته حول الأعمال الفريدة، مثل تنسيق الزهور وغيرها، لعلك تذكر خلال فترة عملي بالنادي العلمي كان لدينا دورة لحام ونجارة وكهربائيات وإلكترونيات والأحواض المائية والتكييف وغيرها.
اعتقد أن الشاب إذا تعلم فقط كيفية التعامل مع تمديدات المياه والكهرباء وصيانتها وصيانة المكيفات فقد يوفر على بيته مبالغ ليست بالهينة سنويا ولن نكن بحاجة للعمالة الرخيصة التي بالكاد تتقن عملها، لكن شبابنا غير مستعدين صراحة أن يفوتوا ساعات المقاهي والكوفي شوب لأجل العبث بتمديدات المياه.
بالنسبة للزراعة، اعتقد الفرصة مواتية لك الآن لتكون مسؤولا عن مزرعة بأكملها :)
الخبرة موجودة ويمكنك الاستفادة من بعض أقاربك الذين لهم باع في هذا المجال.
وأرجع مرة أخرى أذكرك بكتاب "الانتقال من عصر الوظيفة إلى عصر العمل" وهناك مواضيع كثيرة يمكنك طرحها ولدي مزيد من الافكار في هذا العنوان بالذات.

خبر يقول...

حلو الموضوع و متفقين معك ، و محتاجين فتح الدراسات الحرة في الجامعة ، واحد لم يحقق نسبة لدخول الجامعة و يريد دراسة مساقات في الفيزياء بشكل حر يجب أن نسمح له بذلك ، بس كيف الطريقة؟

خبر يقول...

بالنسبة في الاردن في انجاز للتظوه و هذا عنوانهم http://www.injaz.org.jo/

عبدالله المهيري يقول...

@أسامة يونس: وجود المعاهد المهنية أمر طيب، ما أشير له في مقالتي هي مدارس أو مراكز تدريب للجميع هدفها توفير مكان للتدرب والحصول على المهارة لأن الطالب يريد تعلم ذلك لممارسة هواية وليس للحصول على شهادة، أن يتعلم مهارات تجعله يعتمد على ذاته بدلاً من الاعتماد على آخرين في أمور بسيطة.

@غير معرف: احترامي لك ولكل زملائك وأسأل الله لكم التوفيق، عمل اليدين فيه بركة وخير.

@مريم: اللجان الاجتماعية هذه بإمكانها أن تقدم الكثير للناس، يمكنك المبادرة بتفعيل دور أقرب لجنة لك، جربي الأمر.

@عبد اللطيف العماري: السفر والتغرب يجبر الإنسان على الاعتماد على الذات، هذا ما لاحظته مع كثير من الذين درسوا في الخارج، يتعلمون بأنفسهم أموراً كثيرة لاضطرارهم لكنهم يعودون بشخصية مختلفة أكثر ثقة.

@مبارك محمد: بالفعل المجلة ممتازة، أعلنت عنها في تويتر.

فكرة الكتيب رائعة لكن ستكون مقالة طويلة في موقعي، هناك كتاب اسمه "نهاية عهد الوظيفة" لجيرمي رافكن ترجمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث ويتحدث فيه عن ما ذكرته في مقالتي.

سأكتب مقالة عن العاطلين فلا بد من الموازنة في الموضوع وأنا بالتأكيد لا أحمل المسؤولية كاملة على المؤسسات.

معك في ما ذكرت بخصوص تعلم التعامل مع تمديدات المياه والكهرباء وصيانة المكيفات، هذه الثلاثة هي أكثر ما تتطلب عمالة غير مهارة تتدرب لدينا وتكتسب الخبرة.

بالنسبة للمزرعة أنا بصراحة غير متشجع، على الأقل أرى المكان وأتعلم الأساسيات وأقرر بعد ذلك.

@خبر: الطريقة بتغيير العقليات والقوانين وإلا ليس هناك أي مانع غير ذلك.