الجمعة، 8 أكتوبر 2010

الرحلة الثانية - 5

IMG_0547
مسجد بثلاث مراحل، كل مرحلة بنيت أمام الأخرى.
المجتمع الهندي ليس مجتمعاً واحداً بل هو خليط ثقافات وأديان ولغات والناس يتجاوزون حدود هذه الاختلافات ويتعاملون مع بعضهم البعض ويعيشون حياتهم، في الماضي كانت صورة الهند بالنسبة لي مختلفة فهي الهند وكل من فيها هنود وكلهم يتحدثون لغة أسميها الهندية ويعيش فيها مسلمون وهندوس، هذا كل شيء، لكن كلما قرأت عن الهند اكتشف مدى سذاجة تصوري هذا ومدى عمق اختلاف الثقافات بين الهنود وعندما زرت الهند رأيت بعيني كيف أن الهند منقسمة لقسمين يمكن تمييزهما: المسلمون والآخرون.

المسلمون يمكن معرفتهم بسهولة في الشارع وفي أماكن تجمعهم، ملابسهم وهيئاتهم وأشكالهم وعاداتهم كلها تدل على دينهم وثقافتهم، الآخرون يصعب تمييزهم فمن الصعب تمييز الهندوسي عن البوذي عن معتنق ديانة - أو ربما مذهب - جين، ولعل هناك أديان ومذاهب أخرى لم أسمع عنها.

بالرغم من هذا الاختلاف بين المسلمين وغيرهم فلن تجد المسلمين يعيشون في قرى مدن منفصلة بل يعيشون مع الآخرين، تجد بيت المسلم بجوار الهندوسي وقد تكون هناك صداقة بينهم وقد سمعت داوود يثني على صديق هندوسي ويقول عنه بأنه رجل صالح، الناس بشكل عام يتعايشون مع بعضهم البعض على اختلاف أديانهم.

أين المشكلة إذاً؟ لماذا هناك خلاف بين الهندوس والمسلمين؟ هذا سؤال لا زلت أبحث عن إجابة له لكن الإجابة تكبر كل يوم فمعرفة التفاصيل فالخلاف له تاريخ طويل وازداد بمقدم البريطانيين الذين أتقنوا فن "فرق تسد" واستغلوا العصبيات الدينية ليفرقوا بين الهنود، وبعد البريطانيين جاء الساسة والمتعصبون وحركوا الفتن ولا زالوا لكن اليوم الهند أكثر حكمة مما كانت عليه قبل 60 عاماً.

يخبرني أحد مسلمي الهند هنا في الإمارات عن ضرورة الاحتفاظ بسكاكين كبيرة في منزله في الهند، ويخبرني عن الماضي وعن محاولات بعض الغوغاء من جهلة الهندوس اقتحام بيته، كان يعيش في منطقة تحرقها الفتن الطائفية، لكنه قبل يومين يخبرني أنه باع السكاكين فلم تعد لها حاجة منذ سنين طويلة، البلد أصبح آمناً أكثر من قبل حتى مع محاولة بعض الساسة تحريك الفتنة بتصريحات نارية.

الموضوع لا زال شائكاً والصورة ليست وردية تماماً ولا سوداء، ما أنا متأكد منه أن الوضع اليوم أفضل مما كان عليه قبل عشرين عاماً، على الأقل على المستوى الشعبي، أما على مستوى السياسة فالأحزاب التي تسببت ببعض الفتن بين الهندوس والمسلمين وصلت للحكم في ولايات مختلفة، لذلك هناك نظرة سلبية من المسلمين للسياسين على اختلاف أحزابهم.

المسلمون يعيشون في مجموعات صغيرة من العائلات، تجد مثلاً 30 عائلة في قرية جبلية، و100 عائلة في بلدة صغيرة، و50 عائلة في منطقة زراعية وهكذا، لم أجد مكاناً يجتمع المسلمون فيه بكثافة لتكوين حي كبير إلا في مدينة مانغلور حيث زرنا مسجداً كبيراً تبين أنه بني بأموال المسلمين هناك ويعيش حوله ما يقارب 600 عائلة مسلمة ولأن عددهم كبير استطاعوا تكوين لجنة تنسق أمورهم وتبني المسجد وتديره، هذا لا يستطيعه بقية المسلمين المنتشرين في القرى والبلدات.

نتيجة لهذا الوضع تجد المسلمين بحاجة لمدارس دينية ومساجد كثيرة لكن كل مسجد سيكون بحجم صغير وحتى المسجد الكبير في قياسهم يعتبر صغيراً بالمقارنة بمساجد الإمارات مثلاً، وقد يستغرب المرء كيف يحتاج المسلمون في قرية ما لمسجد مع أن المسافة بينهم وبين قرية أخرى ليست كبيرة، لكن علي أن أذكر أن بعد المسافة أمر نسبي هنا فطول الطريق بالأمتار ليس مهماً بقدر أهمية حالة الطريق والطقس، كثير من الطرق الجبلية بين القرى ليست معبدة ولا مضاءة ويحتاج قطعها لوقت طويل نسبياً وهؤلاء فقراء بحاجة للوقت للعودة لمزارعهم وأعمالهم لكسب الرزق.

كل مجموعة من عائلات المسلمين تعيش في مكان واحد بحاجة لمسجد ومدرسة دينية وبئر للمسجد، من لم يستطع توفير مسجد ومدرسة ففي الغالب يجعلون المدرسة مسجداً أو المسجد مدرسة، وبين القرى والبلدات يبنى مسجد كبير جامع للجمعة والعيدين وأي مناسبة تتطلب اجتماع الناس بأعداد كبيرة.

في ولاية كرناتكا وفي محيط بلدة بيلتانجادي رأيت كثيراً من المساجد تبرع ببنائها رجال ونساء من منطقة البطين في أبوظبي، المنطقة التي أعيش فيها، كنت أود عرض أسمائهم التي وضعت على لوحات رخامية في كل مسجد لكن هذا سيكون انتهاكاً لخصوصياتهم، المهم أن هناك كثير من الرجال والنساء - خصوصاً النساء - تبرعوا لبناء هذه المساجد والمدارس وهم لم يزوروا الهند من قبل أو حتى يروا صورة لما بنوه هناك، وكثير من هذه المساجد ساهم داوود في بنائها بحديثه مع المتبرعين.

وقد رأيت مسجداً ومدرسة ساهم ببناء جزء منها عائلة سعودية، من المؤسف أن الأرض التي بني عليها المسجد لم تعد ثابتة بسبب الحفر حول المسجد، وبعد أعوام قليلة سيضطرون لإغلاقه وهدمه على أمل أن يجدوا متبرعاً آخر يساهم بإعادة بنائه.

في أحيان يجتمع الناس على بناء مسجد وهم فقراء فيجمعون ما يستطيعونه من مال ويشترون أرضاً، وبعد سنوات قد يتمكنون من بناء الأساس، وبعد سنوات يرفعون الأعمدة والسقف، وهكذا يحتاج المسجد لأعوام قد تزيد عن العشر وفي حالات عشرين عاماً لكي يكتمل بناءه، وليس غريباً أن تجد مسجداً بني جزء منه قبل 70 عاماً بالطين وجزء آخر بني بمواد حديثة، رأيت واحداً بني على ثلاث مراحل، كل مرحلة أمام الأخرى فوجدت ثلاث محاريب في مسجد واحد!

هذه نظرة عامة عن أحوال المسلمين هناك، علي أن أذكر بأنني لم أزر سوى جزء صغير من الهند وأن الأوضاع قد تختلف من ولاية لأخرى، أردت فقط أن أبين كيف أن المساجد لا تبنى إلا لحاجة فليس هناك مسجد يبنى في مكان لا يأتيه أحد.

في دفتري الآن أكثر من 10 طلبات لمساجد مختلفة، بعضها يريد التجديد وبعضها يريد التوسعة، وهناك من يريد مدرسة، وهناك من يريد تجديد سجاد المسجد أو حفر بئر، بإذن الله سأعرض بعض هذه الحالات في موقعي لاحقاً.

5 تعليقات:

بسام حكار يقول...

أنا من جهتي لاأملك إلا الدعاء، فاللهم ما يسر لأخي عبد الله أن يجد متبرعين.

د محسن النادي يقول...

صدقت اخي عبد الله انا رايت مساجد مبنيه في العاصمة دلهي وليس فيها حصير
فكنا نتبرع من مصروفنها كطلاب ونقوم بفرشها بما تيسر

كنا في عيد الاضحى نجمع الجلود ونبيعها ومن ثم نقوم بترميم او فرش مسجد
التعليم لديهم مشكله ايضا
وتعتمد كليا على الامام ونشاطه ومعرفته
فقط للقول
علماء الهند من المسلمين موسوعه في تخصصهم
اذكر اني لقيت عالما بالشعر الجاهلي
كنت احتاج ان يترجم لي الكثير من الاشعار التي يلقيها
في بعض القرى خاصه في راجستان
كنت اجد امام المسجد بعلمه يضاهي استاذا جامعيا عندنا
في نظري هذه الهند بحاجه الى اعادة اكتشاف من جديد
ليفهمها العرب
ودمتم سالمين

غير معرف يقول...

أنا أرى أن أكبر غلطة فعلها المسلمون في شبه القارة الهندية هي انفصالهم في دولة منفصلة سموها باكستان
.
كانت غلطة شنيعة ووالله ان حال المسلمين في الهند وهم أقلية أفضل بمئات المرات من حال اخوتهم في الطرف الآخر المسمى باكستان

عبدالله المهيري يقول...

@بسام حكار: بارك الله فيك.

@د محسن النادي: ذكرتني بدعوة الشيخ علي الطنطاوي - السوري - رحمه الله الذي كتب عن الهند ودعا للاكتشافها والتعرف عليها، ما قلته عن علمائهم وأئمتهم صحيح، لديهم حركة علمية ثقافية لا نعرف عنها الكثير، كتاب المسلمون في الهند لأبو الحسن الندوي يغطي جانباً مهماً من هذه الحركة.

@غير معرف: إلقاء اللوم على المسلمين فيه تعميم ظالم، السياسيون هم أساس المشكلة وللبريطانين يد في ذلك كما للهندوس والمسلمين، ثم لنترك باكستان بعيداً عن أي موضوع أطرحه عن الهند إلا إن كان النقاش حولها ضرورياً، كما ترى في موضوعي هذا، لم أذكر باكستان أبداً ولا حتى في المواضيع السابقة، فلنترك باكستان، أظن أن رسالتك وصلت.

اقرأ كتاب Jinnah: India, Partition, Independence الذي ألفه Jaswant Singh، سياسي هندوسي تولى وزارات مختلفة.

Unknown يقول...

أري أنهم "متحدين" و متكاتفين ، اتمني ان نكون مثلهم في يوم من الأيام .