السفر مهما كان هدفه سيبقى تعباً، الانتقال من مكان لآخر متعب، تغيير الأماكن والوجوه والعادات كلها أنواع من التعب، وقد كانت رحلتي متعبة حقاً هذه المرة، البداية كانت في رمضان، سفري إلى الهند سيكون في ليلة 28 من رمضان وسأتناول سحوري على الطائرة لكن هل سأصوم يومي وأنا أستخدم وسائل مواصلات مختلفة؟ يمكنني أن آخذ برخصة الإفطار لكن لم أفعل وقررت أن أكمل صومي إلا إذا أتعبني السفر وقد كان متعباً.
اشتريت تذكرة من طيران الاتحاد على أمل أن تكون الطيارة كبيرة لكنها لم تكن، الكراسي ضيقة والمساحة بين المقاعد صغيرة ومدة الطيران 3 ساعات ونصف، الوقوف طوال الرحلة سيكون مريحاً أكثر من الجلوس على هذه المقاعد، أضف إلى ذلك أنني بدأت أكره الطيران فعلاً وهذا ليس خوفاً من الطيران بقدر ما هو إيمان بأن الطائرات وسيلة نقل غير طبيعية فهي أسرع من اللازم، قطع مسافات طويلة في وقت قصير له فوائده بالتأكيد لكن تأثيره على الجسم لا يمكن إنكاره فالساعة الداخلية تختل وأشعر بالدوار.
كانت هناك شاشة أمامي وجهاز تحكم، الركاب من حولي وضعوا الأفلام المختلفة وبدأوا في مشاهدتها وبعضهم يستمع للأغاني أما أنا فقد كنت أبحث عن زر إغلاق الشاشة فلم أجده فاخترت برنامجاً يعرض مكان الطائرة والمدة المتبقية للرحلة، جاء العشاء أو السحور وقد اخترت ما يسمى كيما وهو لحم مفروم مع الفاصوليا الخضراء والأرز، وجبة هندية معروفة.
للأسف يعجبني أكل الطائرات! لا تسألني لماذا، هناك شيء ما يجعلني أنتظر وجبات الطائرات، أعلم أن هذا الطعام ليس بمستوى يستحق أن أترقب وصوله، أعلم أن هناك مشاهير من الطباخين حول العالم ينتقدون هذا الطعام ويصفونه بالأكل الممل والخالي من الطعم بل وبعضهم يسعى لتطوير هذا الطعام، مع كل هذا أجدني معجب بهذا الطعام وحتى الآن لا أفهم لماذا.
بعد تناول طعامي بدأت أقضي بعض الوقت في حفظ الأدعية من كتيب صغير وقد كنت أحمل كتاباً معي لكن لم أكن في حالة تسمح بالقراءة، الطائرة كانت ترتفع وتهبط بنا بين حين وآخر كأنها تحاول أن تجبرني على إعادة العشاء الذي تناولته لتوي، حاولت النوم ولم أستطع فأكملت رحلتي مبحلقاً في الشاشة التي أمامي وأحاول في نفس الوقت مراجعة حفظ الأدعية.
هبطنا في مطار كليكوت وهو المطار الذي لم أعرف اسمه الفعلي، فقبل شراء التذكرة كنت أبحث عن اسم المطار فوجدت اسم المدينة الأول وهو كويكود (Kozhikode) لكن هناك اسم ثاني أيضاً وهو كاليكوت (Calicut) وفي نفس الوقت وجدت اسم مدينة أخرى هي كوتشي (Kochi) والتي لها اسم آخر وهو كوتشن (Cochin) وظننت أن هذه الأسماء الأربعة كلها تشير لمكان واحد، وفي موقع طيران الاتحاد زادت حيرتي لأنني عرفت أن هناك مدينتان في ولاية كيرلا يمكن السفر لهما مباشرة لكن لا أدري أي واحدة يقصدها داوود، احتجت لسؤال أخو داوود مرات عديدة لأتأكد أن المدينة المقصودة هي كاليكوت وهو بدوره لا يفهم معنى وجود أسماء متعددة لنفس الأماكن.
مطار كويكود أو كاليكوت كبير وحديث نسبياً مقارنة مع مطارات أخرى في الهند، مشيت مسافة طويلة بين الطائرة ومكاتب الجوازات وعندما وصلت رأيت طابوراً كبيراً أمامي فوقفت مع الناس، بعد دقائق جاء رجل يعمل في المطار وأشار لي بأن أتبعه، عقلي قفز فوراً لأسوأ احتمال وعقلي يفعل ذلك دائماً، ظننت أنني سأتورط في مشكلة مع أمن المطار، طلب مني الرجل أن أجلس في كرسي في زاوية بعيدة وبعدها جاء رجل هندي وجلس بجواري فكلمته بالإنجليزية أسأله لم جاؤوا بي إلى هنا فأخبرني أن موظف المطار قريب له وأنه يريد إنهاء معاملتي قبل الجميع! مشنقة أخرى علقتها لنفسي في الهواء لم يكن لها أي داعي.
خلال دقائق أنهى الرجل ختم جوازي وتأكد من بياناتي وخرجت من القاعة لأذهب نحو قاعة الحقائب، عندما أسافر فأنا أحمل معي حقيبتان، واحدة للملابس وكل شيء آخر والثانية حقيبة للكتف صغيرة أحملها معي في الطائرة وتحوي النقود وجواز السفر وتذكرة العودة وكتاب ودفتر وقلم، هذه الحقيبة الصغيرة تبقى معي طوال الرحلة ولا تفارقني لحظة، ومع أنني لا أحمل الكثير إلا أنني أجد نفسي أفكر في تبسيط ما أحمله معي فمثلاً في رحلتي السابقة كنت أحمل معي مزيداً من الملابس والأدوية وفي هذه الرحلة قررت ألا أحمل معي أي أدوية وأن أقلل من الملابس لأقل حد ممكن، وبعد هذه الرحلة يمكنني أن أذهب لرحلة ثالثة بملابس أقل بكثير وبالتالي حقيبة أصغر وبالتالي حقيبة واحدة أحملها معي في كل مكان وتحوي كل شيء.
موضوع السفر بحقيبة واحدة هذا قد يراه البعض سخيفاً أو غير واقعي، شخصياً أرى السفر بأثقال كثيرة نوع من التعذيب لا أريد أن أمارسه في حق نفسي، إن كان السفر تعباً فلم أضيف لنفسي تعباً آخر بحمل أثقال لا أحتاجها؟ متعة السفر أجدها بحمل أقل ما يمكن من أغراض.
بعد طول انتظار وصلت حقيبتي وذهبت إلى باب المطار وهناك التقيت بداوود وابنه محمد، وخارج باب المطار ذهبنا لطرف موقف السيارات وهناك كان السحور جاهزاً! - سحور ثاني بالنسبة لي - أكلناه ونحن واقفون، كوب شاي ثم كوب ماء ثم انطلقنا إلى محطة القطارات، في الطريق توقفنا عند أحد المساجد عندما سمعنا أذان الفجر وقد كنت بحاجة ماسة للتوقف فقد كنت أشعر بصداع رهيب وحرارة وآخر ما أريده هو المزيد من الجلوس، صلينا وأكملنا السير، في الطريق كان الهواء بارداً وكنت أرى الرجال يسيرون عائدين من المساجد، يمكنك معرفة المسلمين بسهولة فهم يلبسون ثياباً بيضاء وغالباً ما يغطون رؤوسهم بطاقية بيضاء أيضاً.
وصلنا لمحطة القطار مبكراً وكان علينا أن ننتظر ساعتين تقريباً حتى نركب القطار الذي سيذهب بنا إلى مانجلور، هذه المرة الأولى التي أركب فيها قطاراً، المحطة صغيرة لكن طويلة وتحوي مقاعد على طول الرصيف، كانت السماعات تعلن وصول قطار أو ذهاب قطار ثم تسمعنا إعلاناً وتكرره، وكانت هناك شاشات تلفاز مسطحة تعرض إعلانات بلا توقف وبصوت عالي، هل يمكنك تخيل الأمر؟ متعب ومرهق وأشعر بحرارتي مرتفعة بعض الشيء وصداع لا يطاق وفوق كل هذا إزعاج لا يطاق.
أردت الذهاب إلى الحمام - أجلكم الله - فذهب معي داوود لكي يدفع للحارسة أمام الحمام! وهذا أمر طريف حقاً لأن الحارسة تأخذ مبلغاً بحسب استخدامي للحمام، بمعنى آخر علي أن أخبرها مسبقاً بما سأفعله في الحمام وأدفع مقابل ذلك 5 روبيات أو 10 روبيات بحسب الاستخدام، هل يمكنك تخيل ذلك؟
جلسنا ننتظر القطار والإزعاج يكاد يفتك بي، رأيت أنني مجبر على التعايش مع هذا الإزعاج وأن علي تطبيق ما قرأته في بعض الكتب، خلعت النظارة من وجهي وأمسكتها بيدي، خفضت رأسي كأنني أنظر في الأرض تحت قدمي وأغمضت عيني وحاولت ألا أنتبه لأي شيء حولي وألا أفكر بأي شيء وأن أجعل عقلي مساحة فارغة تماماً، وللمرة الأولى في حياتي نجحت في فعل ذلك، ربما بسبب إرهاقي، بقيت على هذا الحال لنصف ساعة أو أكثر وعندما رفعت رأسي وجدت داوود يفعل نفس الشيء لكنه نائم، نصف ساعة كانت كافية لإزالة جزء لا بأس به من الصداع والتعب، هل هذا ما يسمونه التأمل؟ لا أدري، أياً كان اسمه فهو مفيد فعلاً.
داوود سمع إعلان وصول القطار فأخبرني أن علي المشي بسرعة لآخر المحطة فالعربة التي حجزنا فيها ستكون في آخر القطار، قطارات الهند تحتاج لموضوع خاص فالهند تحوي إحدى أقدم شبكات خطوط الحديد، القطار الذي ركبناه يستخدم محرك الديزل ويحوي 3 دراجات للتذاكر، الدرجة الأفضل تحوي مقصوراتها على مكيف وأسرة للنوم والمقصورة التي ركبناها كانت من هذا النوع.
الآن أتمنى لو أنني أستطيع كتابة شيء عن تجربتي الأولى مع القطار، الصورة الرومانسية للقطارات في ذهني لم أجدها هناك ليس بسبب القطار أو الناس بل بسببي أنا، يمكنني أن أصف القطار بأنه آلة للزمن فقد ركبت القطار وعرفت مكاني ووضعت رأسي لأرفعه بعد قليل وأكتشف أننا وصلنا إلى مانغلور، رحلة 4 ساعات أصبحت بالنسبة لي مجرد دقيقة بسبب تعبي ونومي طوال الرحلة.
مزيد من المشي والإزعاج في محطة مانغلور، ذهبنا إلى السيارة التي استأجرها داوود - وقد قلت في موضوع سابق أنه اشتراها لكن هذا غير صحيح - ولا زال أمامنا طريق طويل بين مانغلور وبيت داوود في منطقة تسمى بيلتنغادي، وطول الطريق أمر نسبي لأنه قد يكون طريقاً قصيراً بعدد الكيلومرات لكنه طويل بتعرجه وارتفاعه وانخفاضه، وبما أننا في موسم المطر حالة الطرق أسوأ من حالها في قبل بداية موسم المطر، هناك حفر في كل مكان وكل حفرة نمر فوقها تعني صداعاً أكبر.
وصلنا لبيت داوود وقد كان العمال يعملون على إنجاز التفاصيل في الطابق الثاني، هناك غرفتان في الطابق العلوي واحدة كانت غرفتي طوال أيام الرحلة والثانية لابني داوود والمساحة بينهما كانت غرفة جلوس يعلوها سقف مرتفع ونوافذ عالية، كنا نصلي في هذه الغرفة عندما يهطل المطر غزيراً أو في اليوم الأول عندما كنا متعبين من السفر.
كنت أتطلع في زيارتي هذه أن أرى عادات المسلمين في رمضان لكنني لم أجد شيئاً يستحق الذكر، رمضانهم لا يختلف عن رمضاننا إلا في زيادة جرعات الدعاء الجماعي بعد كل صلاة وفي صلاة التراويح، أما غير ذلك فكل شيء كما هو وكما وصفته في مواضيع رحلتي السابقة.
في أيام الرحلة كنا نستخدم سيارة سوزوكي صغيرة وكانت الطرق في أسوأ حال لها بسبب المطر، الطريق الذي يحتاج ساعة سيحتاج ساعتين أو أكثر، في كل يوم نخرج في الصباح الباكر وأكون متفائلاً وسعيداً لكن بعد 3 ساعات على الطريق يذهب التفاؤل ليحل محله التعب والضيق ومحاولة التماسك لكي لا أفرغ معدتي، لكن مع مرور الأيام تصبح كل رحلة بالسيارة شاقة أكثر من سابقتها حتى اقترح داوود أن أخصص يوماً قبل عودتي للراحة فقط، يوم كامل لا أفعل فيه شيئاً وقد كان ضرورياً أن أرتاح قبل عودتي لأن رحلة العودة ستحوي كل شيء ذكرته أعلاه، الطريق إلى مانغلور بالسيارة، ثم القطار إلى كاليكوت، ثم سيارة أخرى إلى المطار ثم الطيارة.
مرة أخرى في رحلة العودة ركبنا مقصورة مكيفة في القطار لكي ننام ولم أنم جيداً وكان الظلام يحيط بنا وبالتالي لا يمكن مشاهدة شيء خارج القطار إلا مصابيح متفرقة هنا وهناك، في الطريق إلى مطار كاليكوت طلبت منهم التوقف عند أي مسجد لأنني أريد الحمام فتوقفوا فوجدت أن الحمام هناك بدون سقف وحتى الجدران لا تزيد متر ونصف وبين الحمام والآخر مجرد جدار، لو لم أكن مضطراً لصبرت حتى المطار.
لم يكن هناك شيء مميز في المطار، أنهيت معاملتي بسرعة وانتظرت الطيارة ثم ركبنا الطائرة لكن الطيار أخبرنا أن الظروف الجوية غير مناسبة فقد كان الضباب كثيفاً، بعد 10 دقائق بدأت الرحلة وقد طلبت كرسياً في آخر صف فأعطوني واحداً بجانب النافذة وهذا يعني أن على الجانب الآخر مسافران آخران وهذا أبقاني جالساً طوال الرحلة لكن التعويض كان في ما كنت أراه خارج الطائرة.
الرحلة كانت في وقت صلاة الفجر تقريباً وعندما بدأت الطائرة بالتحليق ألصقت وجهي بالنافذة فرأيت السحاب ونحن نمر عبره ثم فوقه، يا إلهي كم كان هذا منظراً بديعاً، الشمس تشرق من خلف السحاب والسحاب كأنه أرض تحتنا يرتفع وينزل وله أجزاء كالجبال وأخرى كالبحار لكنها بلون واحد صافي وفوق السحاب لون السماء أزرق عميق بلا أي تشويش والشمس تضيف لكل هذا المنظر سحراً ودفئاً ودرجات من الأصفر والأحمر، لم أفكر بالكاميرا، لم أفكر بالقلم، هذا ليس وقت كتابة ولا تصوير، أردت أن أعيش اللحظة بدلاً من أن أسجلها في دفتر أو صورة، كنت أردد "سبحان الله" وذهني لا يمكنه التفكير في شيء غير هذا المنظر العجيب، جاء سحاب رمادي وآخر أزرق والشمس تعطي الضوء والظل لكل هذا المنظر فلا تمل النفس من رؤية هذا الجمال، ارتفعنا أكثر وأصبحنا فوق البحر ولا زال السحاب بحراً فوق البحر لم ينقطع حتى وصلنا لعمان وهناك رأيت جمالاً من نوع آخر، جبال سوداء خالية لا حياة فيها، صحراء حمراء تتخللها الطرق أو المنازل وأحياناً المزارع، نسير لنصف ساعة ولا أرى غير الصحراء الخالية بكثبانها الجميلة.
ثم رأيت منظراً لم أره في حياتي من قبل، الضباب يغطي الصحراء بطبقات مختلفة فأرى في بعض الأحيان ما تحت الضباب وفي أحيان لا أرى إلا اللون الأبيض وأحياناً لا يكون هناك أي ضباب فأرى بوضوح قطعة من الصحراء أو طريق أو مزرعة، بعد دقائق رأيت بنايات تمتد فوق الضباب وبدأت ألاحظ أن الطيار لا يسير في طريق مستقيم نحو مطار أبوظبي، بدأ يدور دورة كبيرة فعرفت أن هناك مشكلة في الهبوط بسبب الضباب، لكن هبطنا في مدرج بعيد لا يغطيه إلا ضباب خفيف وسبب الضباب تأخرت الطائرة ساعة عن موعد وصولها، الوقت بين الهبوط والخروج من الطائرة كان أشد علي من أي شيء آخر، أردت الخروج بسرعة لكن مارست الصبر وانتظرت خروج معظم الركاب قبلي.
أردت أن أشعر بشيء في هذه اللحظات وأنا أسير في مطار أبوظبي وأختم جوازي وأحمل حقيبتي لكن لم أكن أشعر بأي شيء، كان المطار مزدحماً وكنت في عالم آخر غير المطار، تمنيت لو أنني بقيت في الهند أياماً أخرى وبدأت أفكر في رحلة ثالثة لا أعلم متى ستأتي ولا أظن أنها ستأتي قريباً.
اشتريت تذكرة من طيران الاتحاد على أمل أن تكون الطيارة كبيرة لكنها لم تكن، الكراسي ضيقة والمساحة بين المقاعد صغيرة ومدة الطيران 3 ساعات ونصف، الوقوف طوال الرحلة سيكون مريحاً أكثر من الجلوس على هذه المقاعد، أضف إلى ذلك أنني بدأت أكره الطيران فعلاً وهذا ليس خوفاً من الطيران بقدر ما هو إيمان بأن الطائرات وسيلة نقل غير طبيعية فهي أسرع من اللازم، قطع مسافات طويلة في وقت قصير له فوائده بالتأكيد لكن تأثيره على الجسم لا يمكن إنكاره فالساعة الداخلية تختل وأشعر بالدوار.
كانت هناك شاشة أمامي وجهاز تحكم، الركاب من حولي وضعوا الأفلام المختلفة وبدأوا في مشاهدتها وبعضهم يستمع للأغاني أما أنا فقد كنت أبحث عن زر إغلاق الشاشة فلم أجده فاخترت برنامجاً يعرض مكان الطائرة والمدة المتبقية للرحلة، جاء العشاء أو السحور وقد اخترت ما يسمى كيما وهو لحم مفروم مع الفاصوليا الخضراء والأرز، وجبة هندية معروفة.
للأسف يعجبني أكل الطائرات! لا تسألني لماذا، هناك شيء ما يجعلني أنتظر وجبات الطائرات، أعلم أن هذا الطعام ليس بمستوى يستحق أن أترقب وصوله، أعلم أن هناك مشاهير من الطباخين حول العالم ينتقدون هذا الطعام ويصفونه بالأكل الممل والخالي من الطعم بل وبعضهم يسعى لتطوير هذا الطعام، مع كل هذا أجدني معجب بهذا الطعام وحتى الآن لا أفهم لماذا.
بعد تناول طعامي بدأت أقضي بعض الوقت في حفظ الأدعية من كتيب صغير وقد كنت أحمل كتاباً معي لكن لم أكن في حالة تسمح بالقراءة، الطائرة كانت ترتفع وتهبط بنا بين حين وآخر كأنها تحاول أن تجبرني على إعادة العشاء الذي تناولته لتوي، حاولت النوم ولم أستطع فأكملت رحلتي مبحلقاً في الشاشة التي أمامي وأحاول في نفس الوقت مراجعة حفظ الأدعية.
هبطنا في مطار كليكوت وهو المطار الذي لم أعرف اسمه الفعلي، فقبل شراء التذكرة كنت أبحث عن اسم المطار فوجدت اسم المدينة الأول وهو كويكود (Kozhikode) لكن هناك اسم ثاني أيضاً وهو كاليكوت (Calicut) وفي نفس الوقت وجدت اسم مدينة أخرى هي كوتشي (Kochi) والتي لها اسم آخر وهو كوتشن (Cochin) وظننت أن هذه الأسماء الأربعة كلها تشير لمكان واحد، وفي موقع طيران الاتحاد زادت حيرتي لأنني عرفت أن هناك مدينتان في ولاية كيرلا يمكن السفر لهما مباشرة لكن لا أدري أي واحدة يقصدها داوود، احتجت لسؤال أخو داوود مرات عديدة لأتأكد أن المدينة المقصودة هي كاليكوت وهو بدوره لا يفهم معنى وجود أسماء متعددة لنفس الأماكن.
مطار كويكود أو كاليكوت كبير وحديث نسبياً مقارنة مع مطارات أخرى في الهند، مشيت مسافة طويلة بين الطائرة ومكاتب الجوازات وعندما وصلت رأيت طابوراً كبيراً أمامي فوقفت مع الناس، بعد دقائق جاء رجل يعمل في المطار وأشار لي بأن أتبعه، عقلي قفز فوراً لأسوأ احتمال وعقلي يفعل ذلك دائماً، ظننت أنني سأتورط في مشكلة مع أمن المطار، طلب مني الرجل أن أجلس في كرسي في زاوية بعيدة وبعدها جاء رجل هندي وجلس بجواري فكلمته بالإنجليزية أسأله لم جاؤوا بي إلى هنا فأخبرني أن موظف المطار قريب له وأنه يريد إنهاء معاملتي قبل الجميع! مشنقة أخرى علقتها لنفسي في الهواء لم يكن لها أي داعي.
خلال دقائق أنهى الرجل ختم جوازي وتأكد من بياناتي وخرجت من القاعة لأذهب نحو قاعة الحقائب، عندما أسافر فأنا أحمل معي حقيبتان، واحدة للملابس وكل شيء آخر والثانية حقيبة للكتف صغيرة أحملها معي في الطائرة وتحوي النقود وجواز السفر وتذكرة العودة وكتاب ودفتر وقلم، هذه الحقيبة الصغيرة تبقى معي طوال الرحلة ولا تفارقني لحظة، ومع أنني لا أحمل الكثير إلا أنني أجد نفسي أفكر في تبسيط ما أحمله معي فمثلاً في رحلتي السابقة كنت أحمل معي مزيداً من الملابس والأدوية وفي هذه الرحلة قررت ألا أحمل معي أي أدوية وأن أقلل من الملابس لأقل حد ممكن، وبعد هذه الرحلة يمكنني أن أذهب لرحلة ثالثة بملابس أقل بكثير وبالتالي حقيبة أصغر وبالتالي حقيبة واحدة أحملها معي في كل مكان وتحوي كل شيء.
موضوع السفر بحقيبة واحدة هذا قد يراه البعض سخيفاً أو غير واقعي، شخصياً أرى السفر بأثقال كثيرة نوع من التعذيب لا أريد أن أمارسه في حق نفسي، إن كان السفر تعباً فلم أضيف لنفسي تعباً آخر بحمل أثقال لا أحتاجها؟ متعة السفر أجدها بحمل أقل ما يمكن من أغراض.
بعد طول انتظار وصلت حقيبتي وذهبت إلى باب المطار وهناك التقيت بداوود وابنه محمد، وخارج باب المطار ذهبنا لطرف موقف السيارات وهناك كان السحور جاهزاً! - سحور ثاني بالنسبة لي - أكلناه ونحن واقفون، كوب شاي ثم كوب ماء ثم انطلقنا إلى محطة القطارات، في الطريق توقفنا عند أحد المساجد عندما سمعنا أذان الفجر وقد كنت بحاجة ماسة للتوقف فقد كنت أشعر بصداع رهيب وحرارة وآخر ما أريده هو المزيد من الجلوس، صلينا وأكملنا السير، في الطريق كان الهواء بارداً وكنت أرى الرجال يسيرون عائدين من المساجد، يمكنك معرفة المسلمين بسهولة فهم يلبسون ثياباً بيضاء وغالباً ما يغطون رؤوسهم بطاقية بيضاء أيضاً.
وصلنا لمحطة القطار مبكراً وكان علينا أن ننتظر ساعتين تقريباً حتى نركب القطار الذي سيذهب بنا إلى مانجلور، هذه المرة الأولى التي أركب فيها قطاراً، المحطة صغيرة لكن طويلة وتحوي مقاعد على طول الرصيف، كانت السماعات تعلن وصول قطار أو ذهاب قطار ثم تسمعنا إعلاناً وتكرره، وكانت هناك شاشات تلفاز مسطحة تعرض إعلانات بلا توقف وبصوت عالي، هل يمكنك تخيل الأمر؟ متعب ومرهق وأشعر بحرارتي مرتفعة بعض الشيء وصداع لا يطاق وفوق كل هذا إزعاج لا يطاق.
أردت الذهاب إلى الحمام - أجلكم الله - فذهب معي داوود لكي يدفع للحارسة أمام الحمام! وهذا أمر طريف حقاً لأن الحارسة تأخذ مبلغاً بحسب استخدامي للحمام، بمعنى آخر علي أن أخبرها مسبقاً بما سأفعله في الحمام وأدفع مقابل ذلك 5 روبيات أو 10 روبيات بحسب الاستخدام، هل يمكنك تخيل ذلك؟
جلسنا ننتظر القطار والإزعاج يكاد يفتك بي، رأيت أنني مجبر على التعايش مع هذا الإزعاج وأن علي تطبيق ما قرأته في بعض الكتب، خلعت النظارة من وجهي وأمسكتها بيدي، خفضت رأسي كأنني أنظر في الأرض تحت قدمي وأغمضت عيني وحاولت ألا أنتبه لأي شيء حولي وألا أفكر بأي شيء وأن أجعل عقلي مساحة فارغة تماماً، وللمرة الأولى في حياتي نجحت في فعل ذلك، ربما بسبب إرهاقي، بقيت على هذا الحال لنصف ساعة أو أكثر وعندما رفعت رأسي وجدت داوود يفعل نفس الشيء لكنه نائم، نصف ساعة كانت كافية لإزالة جزء لا بأس به من الصداع والتعب، هل هذا ما يسمونه التأمل؟ لا أدري، أياً كان اسمه فهو مفيد فعلاً.
داوود سمع إعلان وصول القطار فأخبرني أن علي المشي بسرعة لآخر المحطة فالعربة التي حجزنا فيها ستكون في آخر القطار، قطارات الهند تحتاج لموضوع خاص فالهند تحوي إحدى أقدم شبكات خطوط الحديد، القطار الذي ركبناه يستخدم محرك الديزل ويحوي 3 دراجات للتذاكر، الدرجة الأفضل تحوي مقصوراتها على مكيف وأسرة للنوم والمقصورة التي ركبناها كانت من هذا النوع.
الآن أتمنى لو أنني أستطيع كتابة شيء عن تجربتي الأولى مع القطار، الصورة الرومانسية للقطارات في ذهني لم أجدها هناك ليس بسبب القطار أو الناس بل بسببي أنا، يمكنني أن أصف القطار بأنه آلة للزمن فقد ركبت القطار وعرفت مكاني ووضعت رأسي لأرفعه بعد قليل وأكتشف أننا وصلنا إلى مانغلور، رحلة 4 ساعات أصبحت بالنسبة لي مجرد دقيقة بسبب تعبي ونومي طوال الرحلة.
مزيد من المشي والإزعاج في محطة مانغلور، ذهبنا إلى السيارة التي استأجرها داوود - وقد قلت في موضوع سابق أنه اشتراها لكن هذا غير صحيح - ولا زال أمامنا طريق طويل بين مانغلور وبيت داوود في منطقة تسمى بيلتنغادي، وطول الطريق أمر نسبي لأنه قد يكون طريقاً قصيراً بعدد الكيلومرات لكنه طويل بتعرجه وارتفاعه وانخفاضه، وبما أننا في موسم المطر حالة الطرق أسوأ من حالها في قبل بداية موسم المطر، هناك حفر في كل مكان وكل حفرة نمر فوقها تعني صداعاً أكبر.
وصلنا لبيت داوود وقد كان العمال يعملون على إنجاز التفاصيل في الطابق الثاني، هناك غرفتان في الطابق العلوي واحدة كانت غرفتي طوال أيام الرحلة والثانية لابني داوود والمساحة بينهما كانت غرفة جلوس يعلوها سقف مرتفع ونوافذ عالية، كنا نصلي في هذه الغرفة عندما يهطل المطر غزيراً أو في اليوم الأول عندما كنا متعبين من السفر.
كنت أتطلع في زيارتي هذه أن أرى عادات المسلمين في رمضان لكنني لم أجد شيئاً يستحق الذكر، رمضانهم لا يختلف عن رمضاننا إلا في زيادة جرعات الدعاء الجماعي بعد كل صلاة وفي صلاة التراويح، أما غير ذلك فكل شيء كما هو وكما وصفته في مواضيع رحلتي السابقة.
في أيام الرحلة كنا نستخدم سيارة سوزوكي صغيرة وكانت الطرق في أسوأ حال لها بسبب المطر، الطريق الذي يحتاج ساعة سيحتاج ساعتين أو أكثر، في كل يوم نخرج في الصباح الباكر وأكون متفائلاً وسعيداً لكن بعد 3 ساعات على الطريق يذهب التفاؤل ليحل محله التعب والضيق ومحاولة التماسك لكي لا أفرغ معدتي، لكن مع مرور الأيام تصبح كل رحلة بالسيارة شاقة أكثر من سابقتها حتى اقترح داوود أن أخصص يوماً قبل عودتي للراحة فقط، يوم كامل لا أفعل فيه شيئاً وقد كان ضرورياً أن أرتاح قبل عودتي لأن رحلة العودة ستحوي كل شيء ذكرته أعلاه، الطريق إلى مانغلور بالسيارة، ثم القطار إلى كاليكوت، ثم سيارة أخرى إلى المطار ثم الطيارة.
مرة أخرى في رحلة العودة ركبنا مقصورة مكيفة في القطار لكي ننام ولم أنم جيداً وكان الظلام يحيط بنا وبالتالي لا يمكن مشاهدة شيء خارج القطار إلا مصابيح متفرقة هنا وهناك، في الطريق إلى مطار كاليكوت طلبت منهم التوقف عند أي مسجد لأنني أريد الحمام فتوقفوا فوجدت أن الحمام هناك بدون سقف وحتى الجدران لا تزيد متر ونصف وبين الحمام والآخر مجرد جدار، لو لم أكن مضطراً لصبرت حتى المطار.
لم يكن هناك شيء مميز في المطار، أنهيت معاملتي بسرعة وانتظرت الطيارة ثم ركبنا الطائرة لكن الطيار أخبرنا أن الظروف الجوية غير مناسبة فقد كان الضباب كثيفاً، بعد 10 دقائق بدأت الرحلة وقد طلبت كرسياً في آخر صف فأعطوني واحداً بجانب النافذة وهذا يعني أن على الجانب الآخر مسافران آخران وهذا أبقاني جالساً طوال الرحلة لكن التعويض كان في ما كنت أراه خارج الطائرة.
الرحلة كانت في وقت صلاة الفجر تقريباً وعندما بدأت الطائرة بالتحليق ألصقت وجهي بالنافذة فرأيت السحاب ونحن نمر عبره ثم فوقه، يا إلهي كم كان هذا منظراً بديعاً، الشمس تشرق من خلف السحاب والسحاب كأنه أرض تحتنا يرتفع وينزل وله أجزاء كالجبال وأخرى كالبحار لكنها بلون واحد صافي وفوق السحاب لون السماء أزرق عميق بلا أي تشويش والشمس تضيف لكل هذا المنظر سحراً ودفئاً ودرجات من الأصفر والأحمر، لم أفكر بالكاميرا، لم أفكر بالقلم، هذا ليس وقت كتابة ولا تصوير، أردت أن أعيش اللحظة بدلاً من أن أسجلها في دفتر أو صورة، كنت أردد "سبحان الله" وذهني لا يمكنه التفكير في شيء غير هذا المنظر العجيب، جاء سحاب رمادي وآخر أزرق والشمس تعطي الضوء والظل لكل هذا المنظر فلا تمل النفس من رؤية هذا الجمال، ارتفعنا أكثر وأصبحنا فوق البحر ولا زال السحاب بحراً فوق البحر لم ينقطع حتى وصلنا لعمان وهناك رأيت جمالاً من نوع آخر، جبال سوداء خالية لا حياة فيها، صحراء حمراء تتخللها الطرق أو المنازل وأحياناً المزارع، نسير لنصف ساعة ولا أرى غير الصحراء الخالية بكثبانها الجميلة.
ثم رأيت منظراً لم أره في حياتي من قبل، الضباب يغطي الصحراء بطبقات مختلفة فأرى في بعض الأحيان ما تحت الضباب وفي أحيان لا أرى إلا اللون الأبيض وأحياناً لا يكون هناك أي ضباب فأرى بوضوح قطعة من الصحراء أو طريق أو مزرعة، بعد دقائق رأيت بنايات تمتد فوق الضباب وبدأت ألاحظ أن الطيار لا يسير في طريق مستقيم نحو مطار أبوظبي، بدأ يدور دورة كبيرة فعرفت أن هناك مشكلة في الهبوط بسبب الضباب، لكن هبطنا في مدرج بعيد لا يغطيه إلا ضباب خفيف وسبب الضباب تأخرت الطائرة ساعة عن موعد وصولها، الوقت بين الهبوط والخروج من الطائرة كان أشد علي من أي شيء آخر، أردت الخروج بسرعة لكن مارست الصبر وانتظرت خروج معظم الركاب قبلي.
أردت أن أشعر بشيء في هذه اللحظات وأنا أسير في مطار أبوظبي وأختم جوازي وأحمل حقيبتي لكن لم أكن أشعر بأي شيء، كان المطار مزدحماً وكنت في عالم آخر غير المطار، تمنيت لو أنني بقيت في الهند أياماً أخرى وبدأت أفكر في رحلة ثالثة لا أعلم متى ستأتي ولا أظن أنها ستأتي قريباً.
4 تعليقات:
اختلاف اسماء المدن جاء بعد فوز حزب البي جي بي الهندوكي لسده الحكم حيث اعاد الاسماء الهنديه للمدن لذلك تجد الاختلاف في الاسماء .....ذكرتني باكلة الكيما فهي بحدة طعمها لا تعوض ...... دخول الحمام باجر يعمل فيه الان في اغلب المدن الكبيره للحفاظ على نظافتها وفقط من هو مضطر يدخلها ههههههه ضحكت على فرق التسعيره بين خفيف وثقيل
ننتظر باقي التفاصيل فهي بحق ممتعه
ودمتم سالمين
كنت اقرأ في احد الكتب لا اتذكر اسمه ان المدن الصغيرة يتغير اسمها على حسب الحاكم الإداري للمنطقة هذا الكلام منذ قرون واعتقد بأن تعدد التسميات كان لهذا السبب
حقيقة السرد شيق جدا ارجوا المواصلة فأنا مستمتع
@د محسن النادي: مؤسف أن يصل هذا الحزب للحكم، ما أعرفه أنه حسب مساند من قبل المتطرفين الهندوس، لعلي على خطأ، أما نظافة الحمامات فحقيقة يصعب الحديث عن نظافتها إلا في بعض البيوت، أي حمام عام في الهند لن يكون نظيفاً، على الأقل هذه تجربتي.
@فلمر: شكراً على ذكر المعلومة والكلمات الطيبة.
تدوينة أكثر من شيقة ! نشكرك لمشاركتك مشاعرك معنا و مستغرب جدا لتسعيرة الجمام هههه في مصر التسعيرة موحدة و بالنسبة لنظام القطارات اعتقد مصر تستخدم نفس النظام !
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.