آخر ثلاث أيام من رحلتي قضيتها في الطريق إلى بانغلور وفيها، كانت الخطة أن نذهب إلى ميسور للسياحة لكنهم أقنعوني أنها لا تحوي شيئاً يستحق المشاهدة فغيرنا وجهتنا في منتصف الطريق واتجهنا نحو بانغلور، خرجنا في الصباح الباكر وكنا خمسة، داوود وابنه محمد وأخوان أحدهما اسمه حسن والآخر نسيت اسمه ... لعله شفيق، كان وجود أربع أشخاص يقودون السيارة مهماً فقد تبادلوا هذا الدور في الطريق عدة مرات، كل ما تعب أحدهم من القيادة جاء الآخر.
الجو في الصباح كان رائعاً والطريق لا زال كما هو متعرج يرتفع وينخفض بنا، يذكرونني بأن هناك طريق "هاي واي" عندما نذهب إلى بانغلور، طريق مستقيم معبد لا مشاكل فيه، انتظرت هذا الطريق لساعات ولم يأتي، في منتصف اليوم توقفنا عند استراحة كبيرة مطلة على وادي، في هذا الوقت لم أشعر برغبة في التصوير من التعب لكنني نادم على ذلك الآن.
تناولنا الغداء والذي كان يحوي أنواعاً من المرق والتوابل ولأول مرة في الرحلة رأيتهم يضعون الروب، أخيراً رأيت طعاماً بسيطاً يمكنني تناوله، بادلتهم ما لدي من مرق بأكواب الروب الصغيرة، هم لا يأكلون الروب أو الجبن لأسباب أجهلها، ليسوا معتادين عليها.
أكملنا الطريق ووصلنا إلى أرض يمكن أن أصفها بالصحراوية بين مانغلور وبانغلور، لأول مرة في الرحلة أرى أرضاً صخرية أو رملية، كانت المزارع تغطي بعض المساحات ثم أرى أرضاً صخرية على امتداد البصر، الطريق كان بالفعل مستقيم ومعبد ولأول مرة أستطيع النوم قليلاً في السيارة، كنت أرى بين حين وآخر بيوت المشردين في مكان لا يمكنك أن تتخيل أن أحداً سيعيش فيه، بيوتهم مصنوعة من الخشب الذي جمعوه من أماكن عدة، ينصبونها ويجعلونها أساساً للجدران والسقف ويغطونها بقطع من البلاستيك، هؤلاء كما يبدو وصل فقرهم لمستوى لم أره من قبل، فقرهم يجعل العيش حتى في قرية فقيرة يبدو أمراً صعباً ومكلفاً لهم، أطفالهم كانوا يلعبون بين الرمال والقذارة ولا يسترهم شيء، عجيب أمر هذه الدنيا، نحن في طريقنا نحو مدينة وصلت أسعار الأراضي فيها لمبالغ خيالية وكما يقول داوود أراضيها أغلى من أراضي دبي، لكننا نرى هنا صور للفقر الذي لا أظن أن هناك أحد يمكن أن يصل لمستوى أقل من ذلك، هذا فقر القاع، لا شيء دون ذلك.
في الطريق أوقف داوود السيارة وطلب مني أن أنزل لأن فلان سيذهب إلى الخلاء، ضحكت كثيراً وقلت له "ليش أنزل؟ حق أشجع؟" وأكملت ضحكي وضحك هو معي، نزلت بالفعل لكنني لم أشجع أحداً على شيء، كنت أحدث محمد ابن داوود ثم بدأنا نمارس رياضة خفيفة لكي نحرك العضلات التي لم تتحرك لساعات.
أخبروني أننا سنبيت الليلة في الطريق في مزرعة للقهوة يعرف داوود صاحبها، هناك التقط كثيراً من الصور، المزرعة كانت مكاناً عجيباً تمنيت لو أنني أستطيع قضاء مزيد من الأيام هناك، هدوء رائع وطبيعة جميلة والجو بارد دوماً.
هذه بعض الصور، أعرضها صغيرة هنا لكثرتها، اضغط عليها لتراها كبيرة:
|
صورة التقطتها على الطريق، ورود في الصحراء |
|
هذه وما بعدها صور من المزرعة |
|
داوود يمارس التصوير |
|
ثمرة جاك فروت أو جاكا كما تسمى في ويكيبيديا |
|
اضغط على الصورة لترى خيوط العنكبوت |
|
داوود وابنه محمد |
|
الطريق الرئيسي في المزرعة |
|
المنظر من فوق بيت المزرعة |
|
حبوب القهوة تجمع في خطوط طويلة لتجفف |
|
هذا المخزن توضع فيه حبوب القهوة بعد قطفها مباشرة وهناك آلة في الأسفل تفصل القشر عن الحبوب، القشر يستخدم كسماد، كل شيء يستغل في شجرة القهوة |
|
في بيت المزرعة رأيت هذا الجذع الذي صقل ونحت بشكل جعله يبدو كرأس غزال |
|
بيت للعصافير |
|
وردة القهوة |
|
هذا مثال لاستغلال كل شيء في الهند، هذا جاروف صنع من عصا والرأس أخذ من صندوق بلاستيكي، يستخدم لبسط حبوب القهوة وجمعها |
|
زملاء الرحلة وخلفهم بيت المزرعة، على اليمين حسن ثم محمد ابن داوود، ثم الرجل الذي نسيت اسمه وهو أخو حسن ثم بالطبع داوود. |
خرجنا من المزرعة في الصباح الباكر، لم يكن هناك شيء يستحق الذكر في الطريق إلى بانجلور التي وصلناها في الظهيرة، لم أحب هذه المدينة وازداد شعوري هذا عندما دخلناها، هناك جسور وطرق معبدة وإشارات مرورية وكل شيء يمكن أن تجده في مدينة عصرية، وهناك زحام وإزعاج والهواء الملوث بدخان الديزل وهذا ما تجده في كثير من مدن الهند، لا أحب هذه المدن.
وصلنا لشارع ضيق مزدحم، شارع لو كان في بلادنا فلن تسير فيه إلا سيارة واحدة ونصف لكنهم هناك لا يبدو أنهم يعبأون كثيراً بقوانين الفيزياء فتجد السيارات مع الدراجات والركشا والمشاة والكل يعيش هذا الجو الذي لا يطاق من الإزعاج والتلوث بأنواعه، لا أنا ولا داوود نحب هذه الأماكن لكنه المكان الذي يحوي الفندق الذي حجزنا فيه غرفنا، قلت لداوود أنني لن أخرج وأفضل البقاء في الفندق، صلينا الظهر والعصر ثم خرجنا لمكتبة وعدوني أنني سأجد كل شيء فيها، للأسف وجدت كل شيء إلا الكتاب الذي كنت أبحث عنه، دور النشر الغربية لديها فروع في الهند وقد اشتريت من كتبهم ما جعلني أضطر لشراء حقيبة ثانية.
اليوم التالي قضيته بالفعل في الفندق وقد كان يوماً طويلاً لأنني حبست نفسي وأنا أنتظر موعد السفر الذي يفصل بيني وبينها أكثر من 12 ساعة، كنت أذكر نفسي "بقي 14 ساعة فقط" ثم بعد مدة "بقي 13 ساعة فقط" وهكذا إلى أن جاء الموعد، كنت أقضي وقتي بين القراءة ومشاهدة التلفاز والبحلقة خارج النافذة المطلة على مكان قذر تغطيه الأشجار وهناك أرى صقوراً تحلق وسناجب تتسلق الأشجار ثم تهرب فجأة عندما تلاحظ الصقور.
التلفاز كان يحوي قنوات عالمية وهندية لكن كلها تحمل الطابع الهندي، كثير من التفاصيل وكثير من الألوان وكثير من الإعلانات، كل خبر يعتبر "Breaking news" وكل يوم هناك عدة أخبار عاجلة حتى فقدت هذه الكلمة معناها، الإعلانات تقطع البرامج لدرجة جعلتني أنظر بعين رأفة لقنواتنا العربية، أما تكرار الإعلانات جعل عقلي يحفظ بعضها ويكررها لأسابيع بعد الرحلة.
جاء موعد العودة، ذهبنا لمطار بانغلور وهو مطار حديث، أصر داوود أن أحمل هاتفاً معي لأتصل به في حال واجهت أي مشكلة وخيراً فعل، لم يكن باستطاعته الدخول للمطار لمرافقتي، هذه أول مرة أدخل فيها لأي مطار دون مرافق، بعد ساعة من الانتظار وضعت الحقيبتين في الميزان ثم ذهبت لأختم جوازي، هناك طلبوا مني عنوان إقامتي في الهند، أخبرت الرجل لا أعرف، كنت أقيم مع صديق، فرد بفظاظة أن علي أن أتصل بهم، لا تعجبني طريقة تعامله معي وقد كرر الأمر مع مسافرين آخرين، ماذا لو لم أكن أحمل هاتفاً معي؟ لا أدري ما الذي سيفعلونه، المهم اتصلت بداوود وأعطاني محمد ابنه العنوان وانتهى الأمر، انتظار الطائرة أخذ وقتاً طويلاً كنت فيه أمشي وأجلس وأقوم لأمشي وأغير مكاني ثم هدأت وجلست في مكان واحد.
كم أحب هذه الأماكن، أعني قاعات الانتظار قبل ركوب الطيارة، ترى أنواعاً من الناس لا يمكنك أن تراهم في أي مكان آخر، عائلة صينية يبدو أنهم جاؤوا من هونغ كونغ وكل أفرادها من كبار السن وخطوط الزمن واضحة على وجوههم، هناك عدد كبير من الرجال والنساء الذين جاؤوا للهند لوحدهم ويبدو أن كل واحد منهم لديه قصة تماماً كما لدي قصة، لكنني أجزم أن الإنجليزي الأسمر الذي يجلس قريباً مني قضى شهراً أو أكثر في الهند، أما العجوز التي جلست بجانبي وكانت تلبس ثياباً غريبة وتغطي رأسها فهي تبدو كإحدى الباحثات عن قيم روحية في الهند، لعلها تمارس اليوغا أو لعلها اعتنقت البوذية، كانت الوحيدة التي تقرأ كتاباً ففتحت الكتاب الذي في يدي وهو كتاب عن القائد الصيني الشيوعي ماو تسي تونغ، سمعت أحدهم يهمس لآخر "ماو ماو" فتذكرت كيف أن هذا الكتاب هو كتاب غير مناسب لقراءته في مطار هندي، العلاقة بين الصين والهند ليست على ما يرام وهناك هنود يعتنقون مبادئ الماوية ويمارسون إرهابهم في شمال الهند.
ركبت الطائرة وجلست على الكرسي المريح الواسع على عكس الطائرة التي أتيت بها إلى الهند فقد كانت ضيقة مزعجة، الرحلة من بانغلور إلى دبي لم تأخذ وقتاً طويلاً، تحدثت مع الإنجليزي بجانبي لأعرف الكتاب الذي يقرأه، قصة شابين عمانيين توأمين، فرقتهم الظروف في يوم مولدهما فتربى أحدهم لدى عائلة نصرانية وتربى الآخر في بيت عائلة مسلمة والكتاب يحكي قصتهما، سجلت اسم المؤلف لكي أشتري الكتاب لاحقاً.
في مطار دبي! كنت سعيداً بشكل لا يوصف، أخيراً أنا في مكان أستطيع أن أنجز عملي فيه بسرعة وبالفعل المسافة بين باب الطائرة وباب الخروج لم تأخذ أكثر من نصف ساعة اكتشفت فيها أنني وعدد قليل من الركاب سننزل في مطار دبي بينما البقية سيذهبون إلى طائرات مختلفة.
كان في استقبالي حسن أخو داوود، بعد السلام والكلام خرجنا من المطار، أول شيء قلته لحسن في السيارة "والله نحن في نعمة لا نعرف مداها" ثم ذكرت له كيف أن الطريق المستقيم المعبد نعمة، كنت فرحاً بالعودة والآن كل ما أتمناه أن أعود للهند.
انتهى.
6 تعليقات:
لماذا كل ما تتمناه هو العودة لهناك؟
استمتعت كثيراً بقراءة هذه السلسلة
لكن لم توضح لنا لماذا طلب منك داوود النزول في الطريق عندما أراد أحدهم قضاء حاجته ... هل كنت على راكباً جهة باب السيارة .
سلسلة جميلة جدا كنت حريصاً علي قراءة كل جزء منها ، تعلمت الكثير عن الهند ، إزداد إيماني بانني لا أود زيارة الهند أبداً بالرغم من طبيعتها الساحرة ، فحبي للطبيعة لا يتفوق عليه إلا كرهي للغذارة.
@محمد الأسمر: لم لا؟ كنت سعيداً بالرغم من التعب، كنت أفعل شيئاً أحبه وكذلك كنت أساهم في مشروع خيري سيفيد الناس هنا، الناس بسطاء ولطفاء ولا يتكلفون في التعامل وأجد رحاتي بينهم.
@Meg: شكراً جزيلاً.
@غير معرف: لا، كنت راكباً في المقعد الأمامي، داوود كان يريدني أن أستريح من الجلوس.
@محمد النعمان: شكراً أخي محمد، وأتمنى أن يكون ما تقوله مجرد رأي ستغيره لاحقاً، يمكن تجنب القذارة بتجنب المدن والازدحام، الأماكن الطبيعية تخلو من الناس ويمكنك أن تستمتع فيها.
اعترف بأني استمتعت استمتاعا كبيرا بهذه السلسلة الهندية وكنت أرجو أن تتوسع مطولا في الحديث عن الناس وعيشهم وعبادتهم ولكن ومهما كان فالسلسلة رائعة فعلا ولي طلب أرجو أن تحققه ... الكتاب الذي تحدثت عنه على هامش لقاء الانجليزي والذي يحكي قصة التوامين، وجدت القصة مميزة ونهايتها مثيرة حسب ما أخمن فهل نطمح منك في تلخيص القصة يوما؟؟؟ أرجو ذلك فعلا وفي انتظار ما يأتي أبقيك في حفظ الله ورعايته
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.