الجمعة، 5 فبراير 2010

الرحلة الهندية - 3


"الطعام ثقافة" هذا ما كنت أردده بين حين وآخر على طاولة الطعام في بيت داوود، كنت أسأل عن كل أكلة واسمها ومعناها ومما تتكون وداوود كان أكثر من جاهز للإجابة على كل صغيرة وكبيرة، وهكذا استمر حالنا في كل وجبة كل يوم، كلما رأيت نوعاً مختلفاً من الطعام سألت وداوود يجيب، ومحمد ابن داوود يكرر علي أن ما أراه أمامي هو من مكونات ثقافة الهند الجنوبية ووضح أن هناك اختلافاً بين الشمال والجنوب في ما يتعلق بأنواع الطعام.

ما لاحظته أن ما يسمونه "صالونة" وما نسميه المرق يوضع على كل وجبة سواء الإفطار أو الغداء أو العشاء أو حتى وجبة بين الوجبات، والمرق لديهم ثقيل بالزيت والتوابل والفلفل الحار الذي خففوا منه في أيام الرحلة شفقة منهم علي لأنهم ظنوا أنني لست معتاداً عليه وأنا في الحقيقة أريد المزيد منه، قد يحوي المرق قطع من اللحم أو السمك أو الخضار، وقد يضاف له حليب النارجيل الذي يعطيه مذاقاً لا أستطيع وصفه بسهولة، لكنه يقترب من الحليب الدسم الثقيل.

تكرار رؤية المرق يشعرني أنه لا فرق بين الوجبات خصوصاً أن ما لم يؤكل في الإفطار مثلاً سأراه ثانية على الغداء والعشاء،  وبعد أيام تأكدت فعلاً أنه لا فرق بين الوجبات وكل شيء يمكن أن يؤكل في أي وقت.

أنواع الأطعمة في أي وجبة كثيرة وبأحجام صغيرة، لم يمر يوم واحد استطعت فيه تناول شيء بسيط، أنا معتاد على وجبات بسيطة في أبوظبي، الخبز واللبن مثلاً، وفي بعض الأحيان الخبز مع الشاي، وفي أحيان أخرى أكتفي بالشاي، أستمتع بتناول الرز ساخناً وبدون إضافة شيء وأحب أكل الخبز مع العسل فقط، لكن في الهند قضيت عشرة أيام لم تستطع معدتي أن تجد راحة فيها لتنوع الأكل وكثرته وفي آخر أيام الرحلة اشتقت لطعام المنزل وتمنيت أن أشعر بالجوع مرة واحدة.

مرة طلبت منهم بوضوح خبزاً حافياً خالياً من أي شيء وكوب شاي، فأتاني الخبز بأنواع من البهارات والخضروات الخضراء والشاي كان ثقيلاً لم أستطع شربه وتبين لي بعد ذلك أن المنطقة التي نسير فيها بين مانجلور وبانجلور لا يعرف أهلها كيفية إعداد الشاي الأحمر! لم أصدق أذني، هل يعقل هذا؟ نحن في الهند، من المفترض أن يعرف الجميع كيف يعدون الشاي الأحمر أبسط مشروب ساخن.

وحتى الطعام الواحد تجد فيه العديد من التوابل والمنكهات وربما المكسرات وخصوصاً الكاجو الذي يزرع لديهم، وترى الألوان المختلفة في كل صحن وحتى المذاق يختلف، فالحلو والمالح والحماض كلها تجتمع في وجبة واحدة، أظن أن الفكرة وصلت، التنوع في الوجبات لديهم أمر طبيعي، كثرة التفاصيل لديهم أمر طبيعي وفي كل شيء.

لاحظت كذلك كثرة الأسماء مع وجود اختلاف طفيف بين الوجبات، فمثلاً يخبرونني أن هذا خبز يسمى بإسم وهذا يسمى بإسم آخر، أسألهم عن الفرق لأجد أن أحدهم يطبخ بالزيت والآخر بدونه، وهكذا ازدادت الأسماء علي فلم أتعب نفسي بتدوينها أو معرفة الفروق بينها، وظاهرة كثرة الأسماء رأيتها في مكان آخر أيضاً، على الطرقات أجد أسماء كثيرة للقرى والمناطق مع أن الفاصل بين منطقة وأخرى قد لا يزيد عن كيلومتر واحد.

ثم هناك أوقات الوجبات، في بيتنا تعودت على أوقات ثابتة لكل وجبة، الإفطار في الصباح الباكر، الغداء مباشرة بعد صلاة الظهر، والعشاء بعد صلاة المغرب، عادة تناول العشاء قبل صلاة العشاء قديمة وبحسب ما فهمته من أبي هذه عادة الناس قبل النفط، الآن الناس يستغربون عندما أخبرهم عن توقيت العشاء، في الهند ما لاحظته أن الطعام يؤكل في أي وقت، الإفطار يؤكل في الساعة السابعة صباحاً أو الحادية عشر، الغداء يؤكل قبل صلاة العصر أو في بعض الأحيان قبل المغرب، والعشاء مفتوح، وبين كل هذا هناك وجبات صغيرة تؤكل، ربما أخذت هذا الانطباع لأنني ضيف لديهم، لكن داوود أكد لي أن هذا هو الأمر المعتاد لديهم فكنت أسأل نفسي: متى يعطون للمعدة وقتاً للراحة؟ متى ينظفون أسنانهم؟ ثم ما فائدة تنظيف الأسنان إن كان المرء سيعود للأكل بعد ربع ساعة؟


أعود لأنواع الطعام لديهم، الخبز يصنع لديهم بدقيق الأرز والذي يضاف لوجبات عديدة، الخبز يسمى لديهم دوسا ويضاف لهذا الاسم أسماء أخرى على حسب نوع الخبز، فهناك الخبز الأسطوري بايبر دوسا (Paper dosa) الذي حدثوني عنه في كل وجبة ولم أره إلا في آخر الرحلة في مطعم ما، يسمى "بايبر" أي ورق بالإنجليزية لأنه يأتي بحجم كبير كالصحيفة، وترونه مطوياً في الصورة أعلاه.
الأنواع الأخرى من الخبز:
  • نير دوسا، طحين الأرز مع الماء ويطبخ بلا زيت ويكون رفيعاً،
  • ماسالا دوسا، هذا المفضل لدي، خبز يطبخ عليه حشوة من البطاطا والبصل والتوابل.
  • رافا دوسا، لا أدري ما الفرق بينه وبين الأنواع الأخرى، شكله يبدو كخبز المحلى لدينا في الإمارات لكن أثخن ومالح.
  • فيلا دوسا، حلو الطعم ويشبه البانكيك.
    هذه فقط عينة صغيرة من أنواع الخبز، ومع أنواع الخبز تأتي أنواع من المرق والتوابل تسمى شاتني (chutney)، وهي تشبه الحمص والمتبل في الطعام الشامي، وما رأيته من أنواعها كثيرة، بعضها أبيض اللون أو أحمر أو أخضر، فالأبيض قد يكون روباً وهذا لم يأكله أحد غيري فهم غير معتادين على تناوله وحتى الجبن لديهم نادر، ورأيت حليب النارجيل مع شيء من التوابل، أما الأخضر فهي طماطم خضراء مهروسة وفيها كثير من التوابل، وتأتي أكلات أخرى بنفس اللون لكن لم أجرب إلا القليل.

    قبل سفري حدثتني أختي عن احتمال أن أصاب باضطرابات المعدة التي يمكن توقعها عند تناول طعام جديد في بلد آخر ونحن نفترض أن الطعام لن يكون نظيفاً، لذلك اشتريت قبل السفر دواء للمعدة ولم أضطر لاستخدامه طوال الرحلة، لم أصب بأي مشكلة متعلقة بالطعام غير كثرته وتنوعه الكبير، طعام المنازل كان نظيفاً ولذيذاً وأقبلت على تناوله كأن يوم غد لن يأتي أبداً، هذا في أول أيام الرحلة ثم أخذت أتقشف في الأكل بقدر الإمكان وفشلت في ذلك فشلاً ذريعاً وسيأتي الحديث عن ذلك.

    المطاعم غير نظيفة في الغالب لذلك كنا نبحث عن مطاعم نباتية وهي كثيرة هناك، الطعام النباتي جزء من ثقافة الهندوس لأن بعض مذاهبهم تحرم أكل اللحوم، وأظن أن أغلبكم يعرف أن الهندوس مثلاً يقدسون البقر وهم يقدسون مخلوقات كثيرة ويظنون أن أمواتهم يعودون للحياة على شكل هذه المخلوقات، ففي الكوجرات مثلاً هناك معبد مخصص للجرذان والفئران، رأيته في برنامج وثائقي عرض على إحدى قنواتنا، يضعون لها صحناً من الحليب فتأتي في مجموعات كبيرة حول الصحن لتشرب ولا تخشى الناس، منظر يثير الغثيان.

    الطعام النباتي يعجبني وما أكلته في المطاعم كان نباتياً كله، وهم يضعون فيه نوعاً من الحبوب لتزودهم بالبروتين الذي يفقدونه، ولأنهم لا يستطيعون استخدام اللحوم أبدعوا في ابتكار وجبات شهية تعتمد كلياً على النباتات، الأرز هو المكون الرئيسي لهذه الوجبات فتجده يطبخ بأسلوب تقليدي وتصنع منه الحلويات.

    أيام الرحلة قضيتها بين زيارة المساجد وزيارات مجاملة لأناس مختلفين، ولأنني ضيف داوود أصبح العبء علي مضاعفاً فموافقتي أو عدم موافقتي على الحضور ستؤثر أيضاً على داوود، فإن لم أحضر لبيت قريب له قد تنقطع العلاقة بينهم، فكيف يحضر عربي ولا يجره داوود إلى بيتهم؟ العربي لديهم كائن مختلف، بحسب ما قاله داوود لم يزر العرب المناطق التي زرتها إلا قبل عقود، بعض المناطق لم يزرها عربي واحد منذ سبعين عاماً، مناطق أخرى جائها عربي آخر قبل ما يزيد عن 15 عاماً من الإمارات وكان ضيف داوود أيضاً.

    كنت أشعر بالحزن والفرح معاً عندما يخبرني أحدهم أنني العربي الأول الذي يزور منطقتهم منذ كذا وكذا، حزين لأنني أرى أن على العرب وخصوصاً الدعاة وفاعلي الخير أن يزوروا المسلمين في كل مكان ليعرفوا أحوالهم، المسلمون حول العالم ينظرون للعرب نظرة تقدير واحترام لكونهم عرباً ولأنهم يسكنون أرض النبوة والحرمين ولأنهم كما قيل لي "أحفاد الصحابة" هذا من ناحية يجب أن يسعدنا ومن ناحية أخرى يجب أن يحزننا لأن أحفاد الصحابة لم يسيروا على ما سار عليه الصحابة، هؤلاء المساكين لا يدرون أن من أحفاد الصحابة أناس لا يعرفون من الدين سوى الاسم وبعضهم أنكر الدين.

    داوود كان يرتب برنامج الرحلة ويغيره بحسب الظروف، شخص ما دعانا فلنذهب له، وأنا وعدت بزيارة ثلاث بيوت قبل أن أسافر فذهبنا إلى هناك، وفي كل زيارة تأتي دعوات أخرى، وفي كل وليمة يحاول صحاب البيت أن يضع كل ما يستطيعه للضيف العربي، وفي كل وجبة أحاول أن أتناول القليل فيصرون على وضع المزيد فآكله لأنني أستحي أن أقول لهم لا، فيحاولون إضافة المزيد بعد ذلك وهنا أتمكن من قول "لا" لأنني - صدق أو لا تصدق - لا أملك معدتين، هناك مساحة محدودة في البطن وقوانين الفيزياء تحكم هذه المساحة لا قوانين الضيافة.

    كان الناس كرماء على فقرهم، عندما نزور المساجد لم يكن أغلبهم يعرف أننا سنفعل ذلك وإلا لأعدوا وليمة، كنا نفاجأهم بوصولنا فيسرعون لإعداد الشاي والنارجيل وشيء من البسكويت، النارجيل يقطع جزء منه ليشرب ماءه ثم يكسرونه ويصنعون بجزء منه ملعقة فنأكل ما بداخل النارجيل، هذا أعجبني أول مرة لكننا زرنا مساجد أخرى وبدأت ما سميته لاحقاً ضيافة النارجيل، وعلى كثرة ما شربت منه كرهته من أعماق قلبي ولم أستطع أن أقول لا، هؤلاء الفقراء لا يجدون ما يقدمونه سوى هذا النارجيل وكنت أخشى من أن أكسر خاطر أحدهم، وبعد النارجيل يأتي الشاي والبسكويت وكل شخص يحاول أن يقدم أفضل ما لديه من ضيافة وبشاشة لهذا الضيف العربي الذي يزورهم، كنت أشعر بالإحراج لأن الجميع ينظر وأتمنى لو أستطيع الحديث بلغتهم لأخبرتهم أنني لست أفضل منهم ولا شيء يجعل العربي خير من الأعجمي، ديننا جعل الناس سواسية والتقوى هي معيار التفاضل وأعلم يقيناً أن هؤلاء خير مني.

    زرنا مرة منزل رجل غني فهو تاجر يعمل في صناعة الأثاث، الرجل بالغ في إعداد وليمة وقد كنت وقتها أريد التخفيف من الطعام، فأكلت ما وضعته لنفسي من أرز ولحم ثم وضع الرجل كوباً من مشروب غازي يشبه السفن أب، شربته وأردت أن أقوم لكنه سحب صحني وأشار لي إن كنت أريد مزيداً من الأرز فقلت "لا، شكراً" فوضع لي ملعقتين كبيرتين من الأرز ووضع كوباً آخر من نفس المشروب، إصرار عجيب، قلت لداوود أن يقول له بأنني لا أستطيع تناول المزيد، فهز الرجل رأسه مبتسماً وسألني إن كنت أريد مزيداً من اللحم!

    قمت بعد أن تأكدت أنه لا توجد مساحة في معدتي وجلست في غرفة أخرى، جاء الرجل ومعه صحون الحلوى ووضع لي ثلاثة منها، قلت له لا أستطيع فقرب لي أحدها! جاء المنقذ داوود وأخبرني أن آكل من كل صحن بضعة ملاعق وأكتفي بذلك، لم تعجبني الفكرة، لا يمكنني أن آكل القليل ليرمى بالباقي في سلة المهملات وأنا في الهند أشد حرصاً على عدم التبذير فقد رأيت الجوع والفقر والتشرد، بعد هذه الوجبة قررت أن أقول لا وانتهى الأمر، بدأت أكتفي بكوب شاي أو حتى ماء.

    أكتفي بهذا ولا زال لدي المزيد.

    9 تعليقات:

    developar يقول...

    أخي أنا وجدت مدونتك من 3 أيام تقريباً و من ساعتها عندما قرأت رحلتك في الهند تغيرت نظرتي للحياة, أولاً ما شاء الله عليك, فعلاً تقوم بما لا يقوم به أحد, ثانياً أنا كنت اسمع عن هذه المناطق الهندية و عاداتها و لكن لما قرأتها هنا في مدونتك مباشرة تأثرت فعلاً...

    تابع سرد كافة التفاصيل مهما كانت

    ماسة زيوس يقول...

    وننتظر مرة أخرى..(:

    عبدالرحمن إسحاق يقول...

    إنه الكرم العربي الهندي ما شاء الله

    { جوري .. يقول...

    عادات غريبه فعلاً ..
    لكن لو نظرنا إلى الأمر من
    جهه أخرى .. نرى ان الهنود
    يتميزون بكثرة الحركه .. ربما
    هذا ما آلهم إلى شحن طاقاتهم في كل وقت
    عن طريق الأكل P:
    الفاضل عبدالله ..
    رحله جميله بين الأطباق الهنديه ..
    بإنتظار التكمله ..

    hope يقول...

    اتمنى المتابعة بمدونتى

    عادل يقول...

    حقيقة أنت قربتنا جدا الى رحلتك كأننا معك في الرحلة بكل تفاصيلها.
    وطريقة تعاملك رائعة.

    عبدالله المهيري يقول...

    @محمد الأسمر: أسعدني تعليقك أخي الكريم، بارك الله فيك، ولا زال هناك عدة مواضيع حول الرحلة.

    @ماسة زيوس: شكراً.

    @عبد الرحمن إسحاق: هذا كرم المسلمين.

    @جوري: رأيت من يمشي مسافات تزيد عن 100 كيلومتر في أيام، يحملون متاعهم وهو قليل وبعضهم لا يحمل شيئاً إلا عصا، ويمشون من مدينة لأخرى ويرتاحون في أي مكان.

    @hope: الأمل دائماً موجود أخي الكريم، فلا تيأس، الأمل حياة.

    @عادل: هذا هو الهدف، أليس كذلك؟ :-)

    أسامة يقول...

    سرد ممتع كما عودتنا يا عبدالله..
    شوقتني أكثر لزيارة الهند.. تمنيت فقط أن تتحفنا ببعض الصور

    عبدالله المهيري يقول...

    @أسامة: الصور تركتها لمواضيع منفصلة، الموضوع القادم بيكون موضوع مصور إن شاء الله