الجمعة، 29 يناير 2010

الرحلة الهندية - 2


زيارة المساجد والمدارس الدينية والتعرف على احتياجات المسلمين كان أحد أهداف رحلتي إلى الهند، كثير من المساجد التي زرتها بنيت بتبرعات محسنين من منطقة البطين في أبوظبي، ومنذ أن التقطت صور هذه المساجد وحتى الآن أنا في حيرة بخصوص عرض أسماء المحسنين، فمعظم المساجد تحوي لوحة رخامية تبين اسم المتبرع ببناءه ولا أدري إن كان المتبرعون سيقبلون أن تعرض أسمائهم هنا أم لا، لذلك لن أعرض الأسماء لأن هذا من خصوصيات المتبرعين.

بناء مسجد في الهند ليس سهلاً، في البداية لا بد من شراء الأرض وهذه تكلفتها تختلف باختلاف المناطق لكنني لم أسمع عن أرض رخيصة فكلها غالية وأسعارها ترتفع عاماً بعد عام، في كثير من الأحيان يشترك الناس في شراء أرض لمسجد لكن لقلة ذات اليد لا يتمكنون من بناء شيء عليها لسنوات إلى أن يأتي تبرع كبير يكفي لبناء المسجد، وفي بعض الأحيان ينجز البناء تدريجياً خلال سنوات، فتحفر الأرض ويوضع الأساس، وبعد عامين مثلاً توضع الأعمدة والجدران، وبعد عام يوضع السقف، وهكذا يبنى المسجد ببطء بتبرعات الناس وأكثرهم لا يملك الكثير، وعندما ينجز بناء المسجد تمد الأعمدة قليلاً فوق سقفه على أمل أن يبنى طابق ثاني بعد سنوات.

المسجد هناك ليس مجرد مكان للعبادة فقط، لا أحد يقفل المسجد بعد ساعة من الصلاة، الأذان ليس موحداً، كم هو جميل أن أسمع مرة أخرى أصوات المؤذنين المختلفة، ينتهي أحدهم ليبدأ الآخر، الشافعية يؤذنون في أول الوقت، والأحناف يفعلون ذلك إلا في صلاتي الظهر والعصر حيث يؤخرون الأذان ساعة تقريباً، ومعظم الأصوات جميلة ومعظم المؤذنين يتقنون نطق الحروف العربية.

أغلب المساجد يحيط بها سور صغير يحيط بأرض المسجد، يخصص جزء من أرض المسجد لبناء مدرسة دينية هذا إن كانت أرض المسجد كبيرة، وإن كان المسجد صغيراً يستخدم كمدرسة قبل وبعد أوقات الصلاة، وتحوي بعض المساجد على ساحة كبيرة تخصص لمناسبات مختلفة وفي أحد أطراف الساحة يوضع بناء صغير كالمسرح يستخدم لإلقاء المحاضرات والمواعظ على جمهور قد لا يستوعبهم المسجد.

المدرسة الدينية ضرورة ملحة للمسلمين في الهند لأن النظام التعليمي الرسمي هو نظام علماني لا يدرس الدين وهذا أمر إيجابي في بلد متعدد الأعراق والأديان كالهند، لكن تصور أن عليك حضور مدرستين في يوم واحد، لا يجد الطلاب وقت فراغ في يومهم، فقبل أذان الفجر يخرج الطالب أو الطالبة من بيته إلى المسجد الذي قد يبعد عنه عدة كيلومترات وقد يكون الطريق وعراً موحشاً، يصلي الفجر مع الجماعة ثم يذهب للمدرسة الدينية، بعد انتهاء الدراسة يحمل كتبه إلى المدرسة الحكومية وهناك يقضي بقية يومه ليعود في آخر النهار إلى البيت، بعضهم يعود للمدرسة الدينية ويجلس هناك إلى صلاة العشاء وبعد صلاة العشاء هناك ذكر جماعي ثم يعود للمنزل.

كنت أرى بعد صلاة الفجر الطابور الصباحي قبل دخول المدرسة، أول ردة فعل لي كانت "حتى هنا لديهم طابور صباحي؟!" والطابور بسيط قصير وقفة مرة لأسمعه وأرى الطلبة، يبدأ الطابور بوقوف الطلاب في أربعة صفوف وقد يكون أحدها صف للطالبات، يبدأ كل صف بأقصر طالب وينتهي بأطول طالب، كان علي أن ألتقط صورة لهذا المشهد، أمام الطابور يقف طالبان يحمل كل واحد منهما كتاباً يقرأ منه أبيات شعر ويغنيها ويردد الطلبة خلفهم، أصوات جميلة وكلمات جميلة، من المؤسف أنني لم أوثق هذا المشهد جيداً.

في إحدى زوايا المسجد هناك متوضأ على شكل حوض والماء يأتي من بئر، وقد لاحظت اختلاف ألوان الماء من مسجد لآخر، بعضها يميل للأخضر وبعضها بني فاتح وبعضها أبيض وقليل منها بلا لون، الألوان تختلف باختلاف المعادن التي يحويها كل بئر، وقد شربت من هذه الآبار ووجدت بعضها أحلى من الماء المياه المعدنية التي تباع في أسواقنا.




عندما تدخل المسجد فلن تجد مكيفات بل مراوح عديدة والإضاءة بسيطة وفي الغالب خافتة، إن كان الماء متوفراً فالكهرباء هناك مشكلة بسبب انقطاعها المتكرر وتكلفتها العالية، بعض المساجد لديها محركات تعمل بوقود الديزل لإنتاج الكهرباء، ولأن تكلفة الكهرباء عالية تكتفي المساجد بالمراوح وبالحد الأدنى من الإضاءة، حتى المراوح لا تعمل كلها إلا في صلاة الجمعة أم بقية الصلوات فيكتفون بالمراوح التي تقف فوق منتصف الصف الأول.

أرضيات المسجد غالباً تكون مغطاة بالسيراميك أو الرخام المتوفر لديهم بكثرة، وفوق هذه الأرضية توضع أنواع من السجاد والحصير، وبعض المساجد لا تضع أي شيء، أما الجدران فغالباً ما تكون خضراء اللون أو صفراء ولم أرى الأبيض إلا مرة واحدة، المحراب يحوي غالباً غرفة صغيرة على جانبه الأيسر، الغرفة يستخدمها الإمام يوم الجمعة قبل أن يخرج للناس، على يمين المحراب يكون المنبر وغالباً ما يكون على شكل سلم صغير من ثلاث درجات.


قبل إقامة الصلاة يصلي المؤذن على الرسول عليه الصلاة والسلام ثم يقيم الصلاة، بعد انتهاء الصلاة يبدأ الذكر الجماعي، فبعد أن يقرأ الإمام آية الكرسي وبعض الأذكار يرفع صوته بقول "سبحان الله" وهكذا يبدأ المصلون في التسبيح، ثم الحمد ثم التكبير وبعد ذلك الدعاء الجماعي الذي يبدأ بأن يرفع الإمام صوته بقول "أفضل الذكر" ثم يردد الجميع بصوت واحد "لا إله إلا الله" عشر مرات، بعدها يدعو الإمام بما تيسر له وفي خاتمة الدعاء يرفع الجميع أصواتهم بالصلاة على النبي ودعاء خاتمة المجلس، بعدها يقوم الجميع للسلام وصلاة السنة، هذا ما يحدث كل يوم.

في ليلة الجمعة وبعد صلاة العشاء يجتمع أهل الحي لدعاء جماعي يدعون فيه لكل المسلمين ولمن بنى المسجد وتردد فيه أبيات من الشعر بالعربية لا أظن أن معظمهم يفهمها لكنها العادة، قبل صلاة الجمعة يمر شخص بصندوق أو علبة لجمع تبرعات من الناس لإمام المسجد وللمؤذن إن كان هناك مؤذن وللمدرس في المدرسة الدينية، في كثير من المساجد هؤلاء الثلاثة يكونون شخصاً واحداً متفرغاً لهذه الأعمال، والأئمة كما أخبرني داوود وضعهم المالي صعب، فرواتبهم تجمع من أهالي الطلبة ومن تبرعات المصلين لكن هذا لا يكفيهم، قليل منهم يمارسون التجارة أو الزراعة.

بعد الأذان الأول لصلاة الجمعة يردد المؤذن جملة يحث فيها الحاضرين على أداء "سنة الجمعة" ولا أذكر أن هناك سنة قبل الجمعة، لكنهم يقفون جميعاً إلا القليل منهم ويصلون، وقبل الأذان الثاني يقف المؤذن أمام المصلين وقد وضع يده على سيف ليردد كلاماً بالعربية لا أذكره الآن، يخرج الإمام بعد ذلك من الغرفة الجانبية ويأخذ السيف معه إلى المنبر، أما الخطب فأكثر الخطباء يقرأونها من كتاب واحد، بمعنى آخر لديهم أيضاً توحيد للخطب لكنه توحيد قديم والخطب تتكرر كل عام ولا تتغير أبداً، الكتاب الذي يقرأون منه الخطب ألفه ابن نباتة المصري، وكثير من الخطباء لا يقرأون الخطبة بل يغنونها، داوود يتضايق من هذا وأنا كنت أريد مشاهدة ما يحدث لكنني بدأت أتضايق أيضاً بعد دقيقتين، قلت لداوود بأن هذا أمر يجب تغييره فالخطبة أهم من أن تترك على هذا الحال فلا بد للخطيب من كتابة خطبته ثم لا بد له أن يتحدث باللغة التي يفهمها أهل المنطقة ولا يكتفي بالعربية.

هذا ما جمعته من زياراتي لمساجد مختلفة، أود لو أتحدث أكثر عن المدارس الدينية والتربية الدينية لكن ربما أفعل هذا في موضوع منفصل، وسيكون لي حديث إن شاء الله عن الصلاة واختلاف المذاهب ولماذا كنت أرفض أن أكون إماماً للصلاة هناك، أكتفي بهذا القدر لكي لا أطيل عليكم.

9 تعليقات:

7alooom يقول...

ماشاءالله بارك الله فيك وانا زرت الهند وصحيح كل ماذكرته عن المسيد وطريقة تعلمهم للدين
يزاك الله خير عالمشاركة الحلوة :)

mouna87 يقول...

السلام عليكم...
استمتعت كثيرا بوجودي هنا ... وصف رائع جعلتني احس اني معكم هناك بانتظار الجديد عن هذه الرحلة...
كم جميل ان تقرا عن عادات وتقاليد اهل منطقة ما من خلال شخص عاش معهم اياما

Sameh.De يقول...

بالنسبة لصلاة الجمعة اخوي عبد الله, الخطبة تكون على فترتين تقريبا وربما تكون قد لاحظت ذلك.. هناك فترة قبل موعد صلاة الجمعة يجتمع فيها الهنود والخطيب نفسه يجلس على كرسي معهم ويخطب بلغتهم خطبة معينة وطويلة تتغير بين جمعة واخرى. ثم حين يحين وقت الصلاة ترى ان المؤذن يقوم ليأذن بصلاة الجمعة ثم يقوم الخطيب على منبر بسيط كما ذكرت ممسكاً بعصاة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم يخطب خطبته المعتادة كل جمعة باللغة العربية خطبتين كماهو معروف ثم تقام الصلاة ويصلي بالناس.

ظني بأنهم يحترمون خطبة الجمعة ويطبقون ماكان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بحيث لا يرضون بان تكون الخطبة الاساسية الا بلغة هذا الدين وان كان اكثرهم لايستطيع التكلم بها لدرجة التمكن الذي يسمح له بان يحضر لها وينوع في مضامينها. بالتالي يكرر خطب معينة متدرب عليها.

بنظري ليست مشكلة دام ان هناك خطبة بلغتهم تتم قبلها يدرسها الخطيب بشكل جيد ويحضرها الكثير منهم..

عبدالله المهيري يقول...

7alooom وmouna87: أشكركم.

@Sameh.De: لم تكن هناك فترتان كما ذكرت، لاحظ أنني أتحدث عن ما رأيته في رحلتي وهو جزء صغير من واقع المسلمين هناك، الأمر يختلف بالتأكيد في ولايات ومدن أخرى، ومما أخبرني داوود عن الجمعة فهمت أن معظم المساجد تسير على نفس النهج، أي يكتفون فقط بخطبة الجمعة المكررة وباللغة العربية.

مفرح يقول...

جميل أخي عبدالله
كنت انتظر هكذا موضوعا منذ أعلنت عن سفرك ..
لفت نظري الأذكار الجماعة والطويلة ، التي ليست من صلب الدين ، وهي بهذا الشكل ربما تنفر الشباب اللذين يميلون بطبيعتهم إلى العجلة ..
هل ترى ذلك اخي عبدلله أم لك رأيا مغايراً

فهد السعيدي يقول...

أخي عبدالله قبل سنتين كانت لي رحلة إلى مانجلور للدراسة استمرت قرابة الشهر تقريبا.
في داخل مانجلور ولا أتكلم عن المناطق خارجها، فإن خطبة الجمعة تكون بلغة كناري، وكانت تستمر إلى ما بعد الواحدة والنصف، ولأنني لا أفقه لغة كناري لا أدري ما الذي يقوله الخطيب إلا الأيات القرآنية و الأحاديث حيث كان ينطقها باللغة العربية.
أما عندما كنت في حيدآباد فكان الخطيب يخطب بلغتهم تولوجو خطبة طويلة، وبعد ذلك يؤذن المؤذن و يخطب مرة أخرى باللغة العربية وكانت خطبة قصيرة جدا بحكم أن من يفهم اللغة العربية هم قلة في الجامع.
بالنسبة إلى الفرش في المساجد فعلى حسب ما شاهدته أن الفرش تكون بسيطة ومتنوعة بسبب قلة ذات اليد، وقد تمر أعوام طويلة حتى يتم استبدال الفراش بآخر جديد.
من العادات الجميلة هناك بعد صلاة الجمعة هو أنه يوجد صندوق خشبي لكل صف من المصلين له أربع عجلات لجمع التبرعات وهي عادة مبالغ بسيطة من القطع المعدنية. يمرر هذا الصندوق بعد السلام من الصلاة من اليمين إلى اليسار، فمن يريد التبرع يجد الصندوق أمامه جاهز للتبرع ولو كان مبلغا بسيطا.
أتمنى أن لا أكون قد أثقلت عليكم بحديثي.

غير معرف يقول...

هناك أمر مشابه لما ذكره Sameh.De في بعض مناطق الجزائر مثل منطقة القبايل و التي تسكنها أغلبية أمازيغية الأصل تتحدث اللهجة القبايلية إذ يكون هناك درس بين الأذان الأول و الثاني يحدث فيه الإمام بالقبايلية التي يفهمونها جيدا ثم تكون خطبتا الجمعة بلغة عربية فصيحة (يفهمونها أيضا)

قد يكون نفس الأمر في كل البلاد التي فيها مسلمون لا تكون العربية لغتهم الأم

عبدالله المهيري يقول...

@مفرح: الشباب لديهم يختلفون عن شبابنا من ناحية التربية الدينية، ففي المدرسة الدينية يتعود الطفل منذ صغره على الأدعية والأذكار باختلاف أنواعها وتصبح عادة لديهم.

@السيد فهد السعيدي: الأمر كما ذكرت في عدة مناطق، ولم تثقل علينا بالحديث، أطل الكلام ما دام أن فيه خيراً :-)

@djug: بحسب ما أعرف هناك فقهاء أباحوا الحديث بغير العربية في الخطبة على أن تكون الخطبة الثانية عربية، لذلك تجد الخطب بلغتين كما قلت أنت في البلاد الإسلامية غير العربية.

د محسن النادي يقول...

اذكر في العام 1996 في راجستان الهند وفي خطبه الجمعه كان يدعو الخطيب للسلطان تبو وهو احد الملوك الذين حاربو الانجليز طبعا الخطبه بالعربي والامام لا يعي ما يخطب به
تبقى الخطبه باللغه الام افضل لتعريف الناس بدينهم
اتابع بشوق لمعرفه المزيد