في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي دارت أحداث كثيرة وكنت وقتها طفلاً لم أكمل العاشرة بعد، أسمع من الأخبار بعض الجمل وأرى بعض الصور التي لم يختفي أثرها حتى اليوم، أتذكر سماع شيء عن حرب لبنان ورجال بلباس عسكري ورشاشات يقاتلون بعضهم البعض، أتذكر الحرب العراقية الإيرانية وأخبار الضحايا والتطورات على أرض المعركة، ثم جائت أحداث متلاحقة غيرت الكثير في العالم.
الاتحاد السوفيتي انهار، جدار برلين سقط، حرب الخليج، كل هذا لا زال يدور في عقلي ولم يتوقف حتى اليوم، عندما بدأت بالقراءة بدأت تجتمع الخيوط وتتضح الصور، كان هناك معسكر شرقي وآخر غربي، كان هناك حلف وارسو ولا زال لدينا الحلف الأطلسي، كان هناك شيء يسمى الحرب الباردة.
كانت هناك دول تختبأ خلف ما سموه بالستار الحديدي وتمارس سياسة العزلة عن العالم، كانت دولاً شيوعية تخضع للاتحاد السوفيتي، الرقابة صارمة على كل وسائل الإعلام، الاستختبارات تتجسس على الناس ومن يشتبهون في ولائه يختفي في سجن ما وقد يرسل إلى معسكرات العمل أو حتى يقتل، نشر الكتب على أنواعها لم يكن مسموحاً بدون رقابة رسمية وأي شيء ينشر بدون موافقة رسمية يثير الشكوك وقد يعتبر دعاية ضد الدولة والحزب والشعب وقد يوصم كاتبها بأنه عدو للشعب.
في ظل هذه الأجواء كانت هناك حركة نشر شعبية سميت Samizdat، فكرتها بسيطة وخطيرة، الكاتب أو الشاعر يكتب ما يريد بخط يده أو بالآلات الكاتبة التي بدورها كانت تخضع لرقابة صارمة،لنشر الكتاب يعطي الكاتب نسخة من كتابه لشخص ما، يقرأها هذا الشخص ثم يقوم بنسخها ويرسل كل نسخة لشخص آخر يثق به، وهكذا كل شخص يقرأ نسخة عليه أن ينسخها ويعطي النسخ لأشخاص آخرين، وإن لم ينسخ القارئ ففي الغالب سيعير نسخته لآخرين، بعض الكتب كانت تباع بأسعار مرتفعة لقيمتها وخطورة تداولها.
الخطير في هذه الفكرة هو أن يقبض على أحد هؤلاء الكتاب أو الأشخاص الذين يملكون نسخاً من كتب غير مرخصة، قد تكون عقوبتهم معسكرات العمل مدى الحياة وفي بعض الأحيان محاكمات أشبه بالتمثيليات تبث على وسائل الإعلام الرسمية وقد ينتهي الأمر بالإعدام.
ما نشر خلال ساميزدات كثير ومتنوع، كتب علمية وأدبية وسياسية، أشعار وقصص وتسجيل للأحداث اليومية، مجلات تنشر أخباراً لا تنشر في وسائل الإعلام الرسمية وقد تتسرب للخارج لتعطي صورة نادرة عن الأوضاع الداخلية.
تعجبني قراءة قصص عن هذا العالم السري للنشر، عندما كان يخاطر الناس بحياتهم لنشر معلومات لا ترغب السلطات الرسمية بوصولها لأفراد الشعب.
الثلاثاء، 28 يوليو 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
12 تعليقات:
أما أنك كنت في أواخر الثمانينات طفلا لم يكمل العاشرة فأنا كنت طفلا لم يكمل الخامسة!
أيها الشيخ الكبير!
شوقتنا ولم تحك شيئا! هلا حكيت لنا من تلك القصص؟
رائع. عرفتني على عالمٍ جديد. شكرًا لك.
ألا أن هناك سؤالًا متعلقًا بخانة التعليق لديك: لماذا لا تدعم النسخ واللصق والقص والحذف؟
هل يا ترى هناك نسخ من هذه الكتب والملاحظات ، وكيف أحتفظ بها البعض إلى اليوم ، ربما البعض يرثها من والديه أو أقاربه ، بعد فوات أكثر من 30 عام على بعض من هذه التواريخ .
أتحسر قليلا على مدى الحرية الذي نعيش به دون قيمة حقيقية للخبر حتى ، أشعر أن معظم الأخبار اليوم مفبركة وليست حقيقية بالكيف الذي تنقل به
كانت للمعلومة قيمة تجعل مجرد الحصول عليها وكأنها الحرب الذي ينتصر فيها المرء
تحياتي يا عبدالله
من أشهر من استخدم هذه الطريقة هم طلاب الشيخ بديع الزمان النورسي حين كان حكم أتاتورك يمنع مطبوعاتهم وانتشرت انتشاراً كبيراً في تركيا والعالم وبعد عدة عقود طبعت لأول مرة وقرأ العالم كنوزها الثمينة. من أشهر طلابه وأتباع حركته الحكومة التركية الحالية أردوغان وعبد الله غل.
شكرا أخي الكريم على هذه المعلومات...
لكن هل تعتقد أننا الآن نعيش في حرية للنشر؟ وهل وسائل الإعلام لا تخضغ للرقابة؟ وهل دور النشر لا تخضع لمقص الرقيب؟
أؤكد أننا لا زلنا نعيش في ذلك الزمان... لكن بقالب مختلف... وبرأيي أن زماننا أصعب.. فترة الشيوعية كان الكل يعلم أن هناك رقابة، لكننا الآن نعيش في زمن يدعون فيه الحرية، لكن لا حرية للأسف.. وهذا بالمناسبة لربما أحد أسباب ظهور حركة التدوين..
أخي عبدالله ربما كنت قد سمعت عما قلته من بداية التسعينات الميلادية وتأثرت به قليلاً وبحثت للاطلاع ، ولكن طريقة النشر التي ذكرتها مثيرة للاهتمام وغريبة فهي تصبح كشبكة تنتشر وتتسع النسخ أكثر فأكثر، دون أن يستطيعوا مصادرتها، فمما فهمت مما كتبته أنهم من الممكن أن يحصلوا على نسخة ولكن لا يستطيعون الوصول لبقية النسخ التي تنتشر بالانقسام الجزيئي كما في الخلية الحية، معلومات رائعة، شكراً لك ، اختك مزاجيات
@أحمد بن عمر باجابر: لم لا تبحث؟ لم أكتب كل شيء لأنني أريد من القارئ أن يبحث، أريد إثارة فضول الزائر.
@مروان: أنا استخدم فايرفوكس وخانة التعليق تدعم النسخ وغير ذلك، جرب مرة أخرى أو جرب في متصفح آخر غير الذي تستخدمه.
@اسماعيل محمد: لا أظن أنك ستجد شيئاً منها، خصوصاً أنها تعتبر نادرة وأكثرها كتب بالروسية ولغات شرق أوروبا، قد تجدها في معرض ما في أوروبا لكن ليس للبيع.
@خالد: بارك الله فيك، مثال رائع، كنت أنتظر أن يكتب أحد الزوار عن أمثلة لدول أخرى.
@يوميات مذيع: لم أقل شيئاً حول حرية النشر، في كثير من مواضيعي هناك رسائل مخفية أترك للزائر فهمها، تستطيع أن تفهم الموضوع هذا على أنه إشار لما تقول في ردك، وإشارات أخرى أتمنى أن يلتقطها البعض.
@مزاجيات: لم تخطر على ذهني ما قلته في ردك، بالفعل وقف هذا النوع من النشر سيكون صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
رائع ما قرأته هنا أول مرة أسمع بهذه المجموعة والفصل يعود لمدونتك شكرا لك وبارك الله فيك سانشر ما كتب هنا على الفيس بوك
وتلك أيام ..
كانت الكلمات تكتب بالدم حتى إذا تناقلتها الأيدي تجسدت فيهم روح الكاتب ..
يومها لم تكن أبدا .. الكتابة ترف
كل يوم يزداد اعجابى بك أخى عبدالله
ثقافتك لا تنضب وفى مجالات متباعده تماما
اسجل اعجابى بقلمك.... تقبل تحياتى
أعجبتني مقالتك.. وأشعرتني حقيقة بأني صغير بمقارنة حالي بحالهم..
ظروفنا الحالية أفضل كثيرا من ظروف كثير ممن سبقونا, ولا زال إنتاجنا أضعف, أو لنقل أقل جودة مما كان..
كم أتمنى أن يكتب الله لنا أبناء هذا الجيل أن نحدث ثورة معرفية, وأدبية, وأرجو أن تكون تكنولوجية..
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.