|
عند محطة الوقود، الأسعار هناك غالية والأغلبية يعتمدون على الديزل |
دعني أخبرك عني قليلاً: أنا شخص ممل! أحب الأشياء البسيطة ويرضيني القليل والبسيط، جلسة في جو جميل مع كوب شاي وكتاب تكفيني لأكون سعيداً، لا مشكلة لدي إن كانت أيامي متشابهة بل أفضل ذلك وبين حين وآخر أريد التغيير الذي لا يتعدى نطاق خروجي من المنزل لشرب كوب قهوة في مقهى ما، ببساطة: أحب الحياة البسيطة الهادئة والمملة لأكثر الناس.
في الهند كانت الخطة أن أبقى ما يقرب من عشرين يوماً دون فعل الكثير، سأقضي معظم أيامي في بيت داوود أقرأ الكتب وأصوم وأفطر وتمضي الأيام دون فعل أي شيء تقريباً، وقد كانت بعض الأيام تسير على هذا الخط وكنت في كل يوم أقرأ كتاباً وأحياناً كتاب ونصف، ألتقط بعض الصور، أكتب بعض الملاحظات ويمضي اليوم بلا تعب ولا شيء مثير، ألم أقل لك أنني شخص ممل؟!
من ناحية أخرى، أنا في الهند وفي موسم المطر ومن الخسارة ألا أخرج لأرى الطبيعة، الصوم هناك وفي ذلك الوقت لم يكن متعباً، لا يوجد شعور بالتعب في هذا الجو الجميل، لذلك لم لا نخرج؟ وقد فعلنا ذلك مرات عديدة وفي كل يوم يحدث ذلك لا أستطيع إنجاز قراءة نصف كتاب فضلاً عن كتاب كامل، لأننا نخرج في الصباح الباكر وأحمل معي كتاباً، لكن السفر بالسيارة لا يترك لي مجالاً للقراءة فأعود دون أن أفتح الكتاب ولو مرة، وفي منزل داوود أكون متعباً فأقرأ صفحات قليلة قبل النوم.
داوود وعدني أن أزور منطقة جبلية بعيدة، وهي منطقة أعرفها جيداً أو على الأقل أعرف جزء منها لأنني في كل رحلة أقطع هذا الطريق الجبلي الذي أحبه وأكرهه في نفس الوقت، طريق جميل متعرج بين غابات كثيفة وأشجار ضخمة لا شك لدي أنها عاشت لعقود وربما بعضها عاش لقرن أو أكثر، مشكلته التعرج الذي يجعلني أشعر بالدوار والصداع، نسير إلى اليمين ثم إلى اليسار ثم عودة إلى اليمين وهكذا صعوداً، تسير السيارة بسرعة ثم تخفف السرعة ثم تسرع مرة أخرى والطريق لا يخلو من الحفر والمطبات.
ما إن ينتهي الطريق المتعرج ويصل إلى حافة الجبل الشرقية حتى يلتف حول الجبل ويسير نحو الغرب في طريق طويل لكن على الأقل لا يرتفع أو ينزل ولا يتعرج كثيراً، في منتصف الطريق هناك معبد هندوسي صغير وبقالة ومطعم صغير يقف عنده الناس طلباً للراحة، وليس مستغرباً أن ترى في هذا الطريق أناس يتوقفون في أي مكان ليخرج شخص من السيارة ويتقيأ! أعتذر عن ذكر مثل هذه التفاصيل، لكن من الضروري أن تفهم معاناة الجميع أو على الأقل البعض منا.
في هذا الطريق خلف الجبل هناك واد على اليمين ومنظر يمتد على مد البصر لجبال ووديان، في موسم المطر هذا المنظر يغطيه السحاب في أغلب الوقت، على يسار الطريق هناك الجبل نفسه بأشجاره وصخوره وشلالته التي تقطع الطريق وصمم لها الناس جسوراً ليعبر الماء تحتها، توقفنا هنا للراحة والتقاط الصور وهو أمر نفعله في كل رحلة، أياً كانت السيارة فهي صندوق معدني يقف بيننا وبين الطبيعة الجميلة، لذلك نخرج ونأخذ وقتنا في تأمل هذا المكان الجميل.
التقطنا الصور، تحدثنا عن الشجر والنباتات والمطر والوديان وعن الناس الذين يعيشون في هذه الوديان بعيداً عن أي مدينة وفي أماكن يصعب الوصول لها، مشينا نحو بعض الشلالات الصغيرة والتقطنا المزيد من الصور، ثم ركبنا السيارة؛ أمامنا طريق طويل، سرنا حتى وصلنا لسهل كبير منبسط، على جانبي الطريق هناك مزارع كثيرة، مزارع الأرز ومزارع الورود وأشجار الزينة، مزارع أشجار الثمار التي يزورها الناس ليشتروا هذه الأشجار لمنازلهم، تجاوزنا هذه المزارع لنصل إلى نقطة تقاطع بين الطرق وفي كل مرة نصل هنا في الرحلات السابقة كنا نأخذ الطريق الأيمن أو نكمل السير لكن هذه المرة أخذنا الطريق الأيسر.
بعد قرى صغيرة بدأت أرى مزارع الشاي والقهوة، منطقة واسعة أخبروني أنها ملك لعائلة واحدة وهم يسمحون للجميع بالمرور والتجول هنا، نحن نريد أن نذهب هناك لكي نصعد إلى الجبل الذي سرنا في طريقه على الجانب الآخر قبل ساعتين تقريباً، وصلنا إلى طريق صعب ولا يمكن للسيارات أن تذهب بنا أبعد من هذه النقطة، نزلنا وكان أمامنا خياران، الأول قصير وصعب ويحتاج شيئاً من الرشاقة التي أفتقدها! والثاني طويل وأسهل قليلاً، اخترنا جميعا الخيار السهل واختار دليلنا وهو راع للبقر - ليس أمريكي! - أن يسير في الطريق الصعب مع أنه رجل كبير في السن، لكنه مضى ببطء يتكأ على عصاه ويحتمي من المطر والبرد بغطاء صنعه بنفسه.
مشينا في طريق ضيق وعلى جانب منه واد سحيق لو سقط فيه أحدنا سيكون هذا أول وآخر طيران له، الريح تعصف من جانب الوادي لتصعد بقوة ثم تدور فوق الجبل فتحرك المطر كما تشاء، كانت المضلات عديمة الفائدة هنا مع أنها وفرت شيء من الحماية ضد المطر، وصلنا لمنطقة لا أشجار فيها وتطل على الوادي، يمكننا من هنا رؤية غابات ومزارع على مد البصر، هذا إن سمح لنا السحاب الذي كان يغطي كل شيء أسفلنا، لكن مع الانتظار بدأ يكشف عن المنظر الجميل، غطاء أخضر لا نهاية له، الجو بارد وممطر والكل من حولي يشتكون البرد إلا أنا وداوود، كلانا لم يكتفي بعد من البرد.
كنت مع مجموعة من الشباب الذين يعرفون داوود وأبناءه وخبر الرحلة وصلهم فقرروا اللحاق بنا، كانوا يلتقطون الصور بهواتفهم وكاميراتهم، وبعضهم يتجرأ على أن يسير نحو حافة الجبل لكي يلتقط أفضل صورة ممكنة، تحدثت عن "السليفي" المميت وكيف أن عليهم الحذر لكي لا يصبحوا أمثلة أخرى لقائمة تكبر لحوادث راح ضحيتها أناس أرادوا التقاط صورة لأنفسهم في أماكن خطرة.
كان هناك أناس آخرون في الجبل لكن على الجانب الآخر منه، نسمع أصواتهم، والشباب معنا لديهم من الحماس ما يكفي للصراخ كالذئاب! فترد المجموعة الاخرى بنفس الأصوات، ويتكرر الأمر طوال مدة بقائنا فوق الجبل، يمزحون بدفع بعضهم البعض نحو الحافة، وردة فعلي لا تزيد عن قولي "أووي" وأخبرهم بأن عليهم الحذر، لكن لم اكن غاضباً أو متضايقاً، كنت مثلهم في الماضي.
بدأت ألاحظ ضحكهم العالي ومحاولة بعضهم التخلص من حشرة ما تتسلق على سيقانهم، لكن تبين أن الحشرة هي دودة من نوع
العلقيات، وهي ديدان طفيلية تمتص دماء الناس والحيوانات، ويمكنها أن تثبت نفسها بقوة على جسم أي مخلوق، هي ليست مضرة كما أخبرني داوود وتستخدم في العلاج وهذا أمر أعرفه، رأيت مرة برنامجاً وثائقياً عن شخص قطعته قدمه فأجريت له عملية جراحية لتركيب القدم، لكن الدماء لم تسر نحو القدم فكان حل الأطباء هو استخدام هذه الديدان على باطن قدمه لتمتص الدم وتجبره على الحركة نحو القدم ونجحت الفكرة، لكن عدم ضرر هذه الديدان أمر أشك فيه، ربما بعضها يكون مضراً وأياً كان فهي مثيرة للاشمئزاز حقاً.
بقينا هناك فترة كافية لتغطينا الأمطار التي كانت تأتينا من كل جهة وقررنا العودة بعد التقاط ما يكفي من الصور، لكن الشباب أرادوا البقاء العودة لالتقاط المزيد من الصور! جلست في السيارة أنتظر وأحاول بلا فائدة أن أجفف نفسي بلا فائدة، بدأت ألاحظ أن هناك شيء ما على قدمي، حاولت تحريكه فلم يتحرك، فتحت الباب ووضعت رجلي في الخارج لأرى دودة طفيلية تعلقت على ظهر قدمي وبدأت وجبة الغداء! كانت ملتصقة بقوة، وضعت أصبعي أسفل بطنها وبدأت أجرها فلم تخرج، ملمسها يبدو كالمطاط اللزج، حاولت مرة أخرى بقوة أكبر فخرجت وبدأت تتحرك في كل ناحية لتثبت نفسها مرة أخرى على أي مكان في جسمي، رميتها وبدأت ألاحظ الدم الذي يخرج من الجرح، احتجت عشر دقائق لكي أوقفه، أخبرني داوود أن بعض الناس يتركونها لأنها عندما تشبع تسقط بنفسها ولا تترك جرحاً خلفها.
ركب الجميع السيارات وعدنا من حيث أتينا، توقفنا عند مجموعة محلات صغيرة لنتشري القهوة والشاي، اشتريت كيسي قهوة لأخي وكيس شاي لنفسي، داوود اشترى بعض البهارات والقهوة من هناك، وكل هذا من إنتاج المزارع من حولنا، أكملنا السير نحو واد آخر تغطيه مزارع الشاي، المزارع كبيرة وفي وسطها قرية صغيرة يسكنها العمال وعوائلهم، هؤلاء العمال يدورون حول المزارع وفي كل يوم يختارون جهة ليقطفوا أوراق الشاي ويدورون في دائرة كبيرة لا تنتهي، الجو هادئ وبارد وجميل حقاً، هذا مكان مثالي لكي يتوقف المرء قليلاً ويشرب كوب شاي بهدوء.
بدأ وقت صلاة العصر يقترب ونحن لم نصلي الظهر بعد، لذلك في الطريق العودة توقفنا عند مسجد وصلينا الظهر والعصر جمعاً وقصراً، المسجد يبدو قديماً وصغيراً ولا يختلف كثيراً عن مساجد أخرى، أطفال الإمام لاحظوا وجودنا فأخبروه وجاء ليرحب بنا ويطلب المساعدة، وهذا حال كل المساجد، الكل يريد توسعة للمسجد أو سجاداً جديداً أو مكاناً للوضوء، أعتذرنا له لأننا نعرف أماكن أخرى لها أولوية، بعض المناطق ليس فيها مسجد وهذه أولى من غيرها.
طال الطريق علينا فتوقفنا عند محطة وقود وفيها مقهى حديث، كان هذا في رمضان لذلك لم نشرب القهوة من عندهم، أن ترى مقهى حديث في منطقة نائية مثل هذه يعني أن الهند وصلها هوس القهوة! مع أن الهند إحدى أكبر منتجي القهوة إلا أن شرب القهوة ليس من عاداتهم، لكن هذا الأمر يتغير الآن بظهور شركات هندية تصنع القهوة بأحدث الآلات.
سرنا ثم توقفنا مرة أخرى في طريق غير ممهد وعلى جانبيه مزارع واسعة، التقطنا الصور ومشينا قليلاً ثم أكملنا السير نحو منزل داوود، كان يوماً رائعاً متعباً وبارداً، في منزل داوود كان رأسي يدور وأشعر بأنني ما زلت في السيارة، شعورني يذكرني بأيام البحر، عندما أخرج للبحر مع أبي رحمه الله كانت أشعر بالبحر وأنا في المنزل ليوم أو يومين.
رحلة أخرى
ابن داوود أخبرني مرة أن هناك شلال قريب يستحق أن أراه ويمكننا الخروج لرؤيته في أي يوم، وافقت دون أن أفكر بأن كلمة "قريب" لها معنى مختلف تماماً في عقلي عن المعنى الذي يقصدونه، قريب هو مكان لا يبعد سوى عشر دقائق بالسيارة ولا يحتاج للكثير من الجهد للوصول له، هذا هو تعريفي له وهو تعريف خاطئ جداً في هذه الحالة، قريب كان له معنى مختلف وسأندم على عدم فهمي له!
كنا في جلسة هادئة في شرفة أحب الجلوس فيها للقراءة كل صباح وفي كل عصر، وقد كان الوقت عصر يوم ما هناك وكانوا يتحدثون عن أمور مختلفة، فتذكرت الشلال "القريب" وأخبرت داوود عنه، سأل هو بدوره ما الذي يقصدونه فأخبروه، ثم حدثني أن المكان جميل ويستحق الزيارة، بعد مكالمة هاتفية أخبرني أننا سنذهب في الغد صباحاً، وافقت وبدأت هنا أدرك أن قريب أصبحت بعيد لكنني لم أدرك كم هو بعيد بعد!
وكعادة الهنود لم يكن بالإمكان أن نذهب مباشرة إلى الشلال، بل علينا أولاً الذهاب إلى السوق لأمر سريع ثم زيارة بيت شخص ما، وتبين أن هذا الشخص هو رجل الأفاعي الذي حدثوني عنه كثيراً في الماضي، رجل هوايته تربية الأفاعي ومخلوقات أخرى، خرج من منزله ورحب بنا، يبدو لي أنه في الخامسة والأربعين من العمر، رأس بنصف صلعة وهذا أمر مشترك بيني وبينه، يضع حلقة في أذنه وأحد أصابع يده اليمنى مشوه ويبدو أنه غير قادر على تحريكه، نتيجة عضة أفعى سامة كما أخبرنى، على دراجته النارية هناك ملصق يقول "Snake Joy" وعلى سيارته ملصق آخر يقول بما معناه "الأفاعي ليست سامة كالناس" وفي خارج بيته يربي طيوراً صغيرة وفئران بيضاء.
دخل لمنزله وعاد بصندوق خشبي أخضر كبير، هناك أفعى من نوع الكوبرا في الصندوق، الكل حولي تراجع خطوتين وتراجعت أنا أربع خطوات، فتح باب الصندوق وكان هناك أفعى بنية اللون ملتفة على نفسها ولا تود الخروج، أجبرها على الخروج، بدأت الكاميرات في العمل لأن هذا منظر نادر، يصعب على أحدنا أن يرى مثل هذه الأفعى إلا في التلفاز، وحقيقة أنها يمكن أن تقتل أحدنا في دقائق زادت من حماسة البعض!
بعد دقائق أعادها للصندوق، أغلق بابها الكبير وفتح باباً صغيراً ووجها نحوه، رأت الظلام فدخلت وأغلق خلفها الباب الصغير، سيعيدها إلى الطبيعة في وقت لاحق كما أخبرنا، هو لا ياخذ الأفاعي الكبيرة إلا عندما تعيش في مناطق قريبة من الناس، يقول بأنه ينقذ الأفاعي من الناس ليحميها ويجعلها تعيش بأمان في مناطق أخرى.
سألت داوود إن كان الرجل متزوجاً، فأخبرني أنه تزوج لكن الزوجة خرجت ولم تعد، لم تتحمل العيش بين الأفاعي ومن يلومها؟ لكن الرجل عشقه الأول هي هذه الأفاعي.
عدنا إلى الطريق ونحو الشلال القريب البعيد، الطريق بدأ يصبح مألوفاً لدي الآن، حتى وصلنا إلى نقطة وسرنا نحو اليسار ومن هنا الطريق جديد علي، تركنا المناطق السكنية خلفنا ودخلنا في غابة كبيرة، الأشجار العالية تغطي الطريق ولا يقطعها سوى قرى صغيرة هنا وهناك، وقفنا عند جسر يمر فوق نهر صغير، أخبروني بأن الهدف هو الوصول لنقطة ما من هذا النهر، عند شلال ينزل من الجبال القريبة.
الطريق المعبد بعد مسافة طويلة انتهى وعلينا الآن قطع النهر لم يكن بإمكاننا فعل ذلك بسياراتنا لذلك جاء شخص ما بسيرة تشبه الجيب لكنها هندية الصنع، ركب الجميع السيارة وخضنا النهر والماء وصل إلى منتصف السيارة ودخل ضيفاً علينا، سرنا مسافة وكان علينا قطع نهر آخر، بعد مسافة توقف الجيب لأنه لم يعد بالإمكان السير أكثر، علينا الآن المشي.
كانوا يحاولون حمايتي من المطر وأنا أحاول أن أخبرهم بأنه ليس عليهم فعل ذلك لكن بلا فائدة، من الواضح أن ملابسي غير مناسبة لهذا المكان لكن ليس هذا وقت الندم، سرنا في غابة وليس هناك بقعة لم يصلها المطر، الأرض طينية والطريق ضيق وعلينا قطع نهر آخر مشياً فوق الصخور، بدأت أسمع صوت الشلال وأنا متعب من الطريق الصاعد، كنت أحدث نفسي "ليش تكلمت؟! كان لازم يعني تذكرهم بالشلال؟!" وكنت نادماً حقاً على تذكيري لهم بموضوع الشلال.
وصلنا إلى الشلال وبدأنا المعتاد، التقاط الصور والشباب يلعبون ويصنعون حركات بأيديهم لتصويرهم وكأنهم ممثلون في أفلام هندية، الشلال صاخب والماء ينزل بعنف، والجميع يريد من الجميع التقاط الصور، شخص ما خاض النهر ليذهب إلى الطرف الآخر من النهر ثم يصعد ليقترب أكثر من الشلال، أنا اكتفيت بالتأمل والوقوف في مكان آمن، المكان يستحق التعب.