الثلاثاء، 8 يونيو 2010

كل سنة مرة

بعد أشهر من التفنن في تجنب المؤسسات الحكومية كان علي أن أعرف بأن نهاية عبثي قريبة، اليوم عدت لمؤسسة ضمان وكنت أردد بيت أنشودة قديمة "أنا عائد أقسمت أني عائد" ورأسي يدور لأنني لم أنم منذ 24 ساعة وقد دخلت في حالة مسلية لا يمكنني فيها أن أغضب أو أتضايق، لسبب ما تأخري عن النوم يجعلني فكاهياً أكثر من المعتاد، كل شيء مضحك وكل شيء يمكنني تحويله لنكتة سخيفة.

دوامة المعاملات التي لا تنتهي، كنت أفكر هناك بهذه الدوامة، لماذا علي فعل كل هذا؟ ما الذي يدفع بمجتمعاتنا لتعقيد حياة الناس بمزيد من الإجراءات ومزيد من البطاقات ومزيد من المصاريف ومزيد من القوانين، كنت أفكر جدياً بإهمال بطاقة ضمان وربما الهوية أيضاً، لم أواجه موقفاً حتى اليوم يحتاج إحدى البطاقتين، وبما أنني أحب البساطة فليس لدي استعداد لوضع هذه البطاقات في المحفظة بل أتمنى أن أرى اليوم الذي أتخلص فيه من المحفظة، ما الذي سيحدث لو لم أتبع الإجراءات الرسمية؟ ما هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث؟ ماذا لو رفضت أن استخرج البطاقات لأسباب مختلفة؟ لدي إجابات كثيرة لكن في النهاية الأمر يعود كله لنقطة الاهتمام، هل أكترث بالعواقب؟ إن تعلمت شيئاً من سنوات المدرسة فهو أنني بالفعل لا أكترث للعواقب عندما أقرر شيئاً أعلم أن القوانين والإجراءات لا توافق عليه، مثل غيابي المتكرر الذي أدى لفصلي من المدرسة، حاولت التظاهر بالحزن عندما فصلت لكنني من الداخل كنت سعيداً، هذه نقطة بداية وقد بدأت بالقراءة بعد فصلي مباشرة، رب ضارة نافعة.

قبل أن نصل كنت أتحدث مع حسن عن المخالفات والكاميرات، ما الذي يمكن فعله عندما لا تجد موقفاً لسيارتك في مكان مزدحم؟ أوقفها خلف سيارة أخرى وضع ورقة تقول "أعتذر، الرجاء الاتصال ...." وضع رقم هاتفك النقال، هذا ما يفعله كثير من الناس، لكن هناك سيارة شرطة تدور في المواقف المزدحمة وشرطي يسجل المخالفات، أحدهم يشتكي للشرطي "شو أسوي؟ وسعوا المواقف وما بنخالف" فيرد الشرطي بحزم أن عليه عدم مخالفة القانون، ربما على الرجل أن يعود في يوم لاحق، ربما عليه أن يبحث عن موقف حتى لو ضيع ساعة أو ساعتين في فعل ذلك، ربما عليه أن يأخذ سيارة أجرة بدلاً من الذهاب بسيارته، لكن ماذا لو كان الرجل يريد الذهاب إلى عمله؟ ماذا لو تأخر عن عمله؟ ألن يخصم من راتبه؟ مسكين أنت يا من تنتمي للطبقة الوسطى أو ما دونها، تأكل من فوقك ومن تحتك ومن أمامك ومن خلفك ... العجب أنك لم تنفجر، هذه نعمة ... يوم آخر بلا انفجار.

دخلنا إلى ضمان، المكان مزدحم وليس هناك مقاعد كافية، الجالسون والواقفون يبحلقون في كل شيء حولهم وينتظرون دورهم، أمامنا ما يزيد عن 170 شخصاً فليبدأ انتظارنا، شاشة التلفاز المسطحة عالية الوضوح تعرض مقاطع إعلانية صامتة عن ضمان، من يعيش في هذه البروباجندا يبدو أنه يعيش في عالم خيالي، الأرقام تتحرك ببطء وأنا أقرأ رواية مملة وحسن يتحدث لرجل بنغالي، أرفع رأسي عندما أسمع "رقم 89 شباك رقم 12" فألاحظ أحدهم يجري نحو مكتب الموظفة، أعود للكتاب الذي أنهيت قراءة فصل فيه فأغلقه لأن النوم يكاد يفتك بي، عدت للبحلقة في الشاشة المسطحة.

الإعلان يعرض صورة وردية، أناس سعداء جداً وابتساماتهم لا تفارقهم، رجل كبير ينهي معاملة بسرعة من خلال الهاتف ويتحدث مع موظفة في قمة الاحتراف والإتقان، كل شيء يمكن حله بالتقنية بسرعة، شاب يعرض خيارات الضمان الصحي ثم يصافح العميل وبالتأكيد الابتسامة لن تفارقه، التفت لأحد الجالسين الذي كان في هذه اللحظة يستخدم ورق محارم ثم رفع بيده فوق رأسه ثم خلف ظهره وبطريقة عجيبة رمى ورقة المحارم تحت كرسيه، التفت لليمين فعرف أنه لم يلاحظه أحد عدت لمشاهدة التلفاز في نفس اللحظة التي التفت فيها إلى اليسار والتقت عيني بعينه لجزء من الثانية وابتسمت ابتسامة ماكرة وأنا أتجاهل نظراته، في التلفاز طبيب يفحص طفلاً ثم يعطيه حلوى، الكل سعيد الكل بصحة وعافية الكل يبتسم والفضل لضمان، عدت لمشاهدة الناس، أحدهم يجلس تحت السلم المتحرك وفي تلك اللحظة رمى أحدهم من الطابق العلوي ورق محارم متسخ فوقع على رأس الرجل، تصويب عجيب! ضحكت ولم أهتم بنظرة الرجل الذي ظن للحظة أنني من رمى عليه الأوساخ، أشرت للأعلى فانشغل بمحاولة القبض على عديم الإحساس الذي بالتأكيد هرب من موقع الجريمة.

الجالسون واجمون صامتون ويشعرون بتضايق وملل، أردت أن أكسر حاجز الصمت مع أحدهم فبدأت بكلمتي المعتادة "خير إن شاء الله؟" أنظر للرجل الذي يتأفف ويبدو التضايق مطبوعاً على وجهه "شو السالفة؟" سألته عسى أن يفضفض لي وسأكون مستمعاً جيداً وسيكون حديثنا خيطاً يجرنا للحديث عن أشياء أخرى ممتعة وبعيدة عن العالم الخيالي الذي أشاهده في القناة المسطحة، رد علي "كل شي منيح، أحلى خدمة" ضحكت بصوت عالي فكل شيء يبدو لي مضحكاً هذه اللحظة، التناقض الواضح الوقح بين الواقع وما يعرض على التلفاز يجعلني أبتسم طوال الوقت، يبدو أن الرجل رأى أنني مواطن ولن أقبل انتقاد مؤسسة وطنية لذلك آثر السلامة ... يا خسارة! كان بإمكانه أن يفرغ بعض همه وأنا سأتفهم حاله وأحاول أن أخفف عنه، قلت له بنبرة نهائية وابتسامة عريضة وأنا أهز رأسي "لا الطيب! هذي مب السالفة."

الأرقام ترتفع ببطء "رقم 199 شباك 10" أخبر حسن أننا على بعد 33 شخصاً فقط، ثم مضت أرقام بسرعة لأن أصحابها كما يبدو ذهبوا ولم يرغبوا في الانتظار أكثر، جاء رقمنا وأنهينا المعاملة، رأيت رقماً جديداً لأحد المتعاملين، 455، أي أن ما بينه وبين وصوله لأي موظف أو موظفة 122 شخصاً وهذا يعني ساعة ونصف أو ساعتين من الانتظار، أعانه الله.

بعد عام سأعود لهذا المكان لإنجاز نفس المعاملة، لماذا لا يمتد الضمان 3 أو 5 سنوات؟ سأدفع أكثر فقط لكي لا أعود لزيارة هذا المكان، لكن سأعود حتماً وسأردد في ذلك الوقت: زروني كل سنة مرة ...

10 تعليقات:

عبداللطيف العماري.. يقول...

لقد اضحكتني كثيراً اخي عبدالله ،، وهذا هو الروتين القاتل الذي نتلقاة في كل زيارة حكومية ،، ولكن الله يعين من عملة يترتب علية مراجعة الدوائر الحكومية بشكل شبة يومي ،، تحياتي ..

بوخليل يقول...

كان الله في عونك ..

من فترة كنت أفكر مجرد تفكير اني اروح لشركة ضمان عشان آخذ لي بطاقة ...
لكن، مستحيل اوقف بمكان فيه 100 شخص أمامي ... !
يعني من سابع المستحيلات انه يجي دورك الا وانته في عالم آخر!!!

تحيتي واحترامي لك وشكرا

أم الخـلـود يقول...

كثيرا جدا من يحبون العيش في عالم الوهم للهروب من الواقع والروتين الممل.

ويمكن نفكر نزورك مرة كل عشر سنوات ومش كل سنة!! هههه

غير معرف يقول...

عبد الله: لماذا لقد قمت - أنت مشكورا - بإتاحة قالب مدونتك الشخصية، ومدونة الطريق الأبسط، للجميع.. فمتى سنشاهد قالب مدونتك إرشيف سردال متاحا لنا؟ علما بأنه أفضل قوالبك على الإطلاق، حيث جمع البساطة والبياض مع القائمة الجانبية المهمة.

X يقول...

زيارتي الأولى لمدونتك ، أخوي عبدالله ..
المدونة غريبة في تصميمها ، ولكن رائعة في تصميمها .

عموماً نعيش هذه الأيام فترة اختبارات نهائية في الجامعة ، وهذا يعني أننا نعيش 24 ساعة بلا نوم ، ويحصل لي ما يحصل لك .. بعد مرور 24 ساعة بلا نوم ، تصاب بنوبة ضحك سخيفة .. أشعر حينها أني " مخفّة " ..

نزار أبوذينة يقول...

عبد الله تفوقت على نفسك فس أسلوب سردي جميل يظهر فيه حس الفكاهة ..بس كل مرة اكتشف معلومة جديدة في تدويناتك .
يعني هالمرة اكتشفت انك سيبت الدراسة بسبب كثر الغياب .
ياريت تحكيلنا القصة بالتفصيل .

عبدالله المهيري يقول...

@عبد اللطيف العماري: هناك أناس عملهم اليومي هو مراجعة المؤسسات الحكومية، المندوبين عن شركات خاصة يفعلون ذلك.

@بو خليل: بالنسبة لي كنت هناك لأنجز معاملة حسن، لذلك مجبر أخاك لا بطل :-)

@أم الخلود: نعم هناك من يفعل ذلك، أتمنى أن يزداد عددهم.

@غير معرف: يا إلهي ... خير إن شاء الله.

@عبدالله: شكراً، أفهم شعور "المخفة" هذا وأظن أنه يتكرر لدي، لكنني لا أحبه خصوصاً أنني أشعر بالتعب الشديد، الأفضل أن ينام الإنسان بشكل طبيعي.

@نزار أبو ذينة: شكراً لك، لم أترك الدراسة بسبب الغياب إلا سنة واحدة، أكملت المدرسة حتى حصلت على الشهادة الثانوية العامة التجارية أو دبلوم تجارة كما أحب تسميتها، أما قصتي مع المدارس فأفضل أن أتركها لوقت لاحق.

Reem يقول...

ننتظر تدوينة تتحدث عن قضاء "أسعد الأوقات" أيضاً في استخراج الهوية التي ألزم بها الجميع .

غير معرف يقول...

عبدالله لو تقدر تمّد السيناريو هذا الى كتاب بصيغة روائية اعتقد انه بينجح ان شاء الله:) الاسلوب ممتاز و جذّاب .. بس تحتاج تحطه في قالب معين و تربط الفصول مع بعضها تحت موضوع معين يهم فئة كبيرة و ان شاء الله بتضبط:)

بالتوفيق
مرشد

غير معرف يقول...

كل سنه واصبر ساعتين بس , اشوف انه شي عادي ولطيف